Page 12 - ميريت الثقافية رقم (27)- مارس 2021
P. 12

‫العـدد ‪27‬‬  ‫‪10‬‬

                                                    ‫مارس ‪٢٠٢1‬‬

     ‫المقفع كتابه «كليلة ودمنة» عن وظيفة الكتاب‬        ‫(شهرزاد) التماهي مع شخصية ملكة بريطانيا‬
 ‫ورسالته‪« :‬ليكون ظاهره له ًوا للخواص والعوام‪،‬‬       ‫إليزابيت الثانية والتشبه بها في ملبسها ومظهرها‪.‬‬

      ‫وباطنه رياضة للعقول والخاصة»‪ ،‬فالرواية‬              ‫وكشفت الرواية عن فهم يستحق الإعجاب‪،‬‬
 ‫نص ح َّمال أوجه‪ ،‬كما يقال‪ ،‬وهو يحمل إمكانيات‬         ‫بالموروثات الشعبية والفولكلورية العراقية التي‬
‫القراءة المختلفة والتأويلات اللا نهائية‪ ،‬كما يتوجه‬      ‫كان يتداولها العراقيون في مراحل مختلفة من‬

    ‫برسالته إلى جميع الفئات الثقافية والمستويات‬         ‫حياتهم‪ .‬ويمكن القول إن الرواية كانت بمثابة‬
‫العمرية‪ .‬وهذه اللعبة تضعنا وج ًها لوجه مع رؤيا‬           ‫موسوعة تاريخية وسياسية وأنثروبولوجية‬
                                                          ‫شاملة عن تاريخ العراق في القرن العشرين‬
    ‫الروائية القائمة على لون من المفارقة الساخرة‬          ‫بشكل خاص‪ ،‬وتاريخ العراق بشكل عام‪ ،‬إذ‬
   ‫والمحاكاة الساخرة (باروديا)‪ ،‬وربما في دمجها‬
                                                           ‫مرت على جميع المراحل السياسية‪ ،‬وأدانت‬
      ‫م ًعا في مصطلح حديث جرى تداوله مؤخ ًرا‪.‬‬          ‫بشجاعة وموضوعية مظاهر الاستبداد والقمع‬
       ‫ولتبسيط الأمور يمكن أن نقول إن المفارقة‬      ‫والدكتاتورية التي سادت في بعض مراحل التطور‬
‫الساخرة قد تنطوي على عكس معناها‪ ،‬حيث يحيل‬            ‫السياسي‪ ،‬مثل الجرائم السوداء التي ارتكبت في‬
 ‫المعنى المباشر إلى معنى آخر‪ .‬وقد تنهض المفارقة‬       ‫انقلاب الثامن من شباط ‪ ،1963‬وتوقفت طوي ًل‬
 ‫الساخرة على أساس التلاعب اللفظي واللغوي‪ ،‬أو‬           ‫عند الفترة الصدامية وآثارها المدمرة على حياة‬
‫على مستوى الموقف‪ ،‬كما هو الحال في الدراما‪ .‬كما‬      ‫المجتمع العراقي‪ ،‬كما عكست صو ًرا نموذجية دالة‬
   ‫نجد تفري ًعا آخر للمفارقة الساخرة‪ ،‬في المسرح‬      ‫على جرائم الاحتلال الأمريكي للعراق‪ ،‬واختتمتها‬
     ‫خاص ًة‪ ،‬يتمثل في المفارقة الساخرة الدرامية‪،‬‬     ‫بمشهد يمهد لصعود الإسلام السياسي المتطرف‬
   ‫عندما يكون المعنى مفهو ًما من قبل المشاهدين‪،‬‬          ‫وهيمنته على حياة المجتمع العراقي‪ ،‬يتمثل في‬
   ‫ولكن ليس من قبل شخصيات المسرحية‪ .‬ومن‬             ‫اللقطة الختامية في الرواية عندما يقطع على (منار)‬
 ‫المعروف أن مسرحية (أوديب مل ًكا) لسوفوكليس‬          ‫تأملاتها موظف جديد في المكتبة الوطنية‪ ،‬حياها‬
  ‫تحفل بمشاهد من هذا النوع‪ ،‬منها أن المتفرجين‬
   ‫يعلمون بالحقيقة المرة وهي أن أوديب هو قاتل‬             ‫بلطف‪ ،‬لكنه لم يمد لها يده عندما مدت يدها‬
                                                               ‫لتصافحه‪ ،‬بل سحبها ووضعها جانبًا‪:‬‬
               ‫أبيه‪ ،‬بينما يجهلها (أوديب) نفسه‪.‬‬
  ‫ومن الامثلة البارزة التي قدمتها الروائية لمفهوم‬    ‫«ولكن الموظف الجديد لم يم ّد لها يده‪ ،‬بل سحبها‬
  ‫المفارقة الساخرة؛ الخطاب الساخر الذي وجهته‬           ‫ووضعها جانبًا على صدره‪ ،‬لكي لا يصافحها‪،‬‬
                                                        ‫وقال لها وهو يمسح لحيته السوداء كالفحم‪:‬‬
    ‫(منار) إلى عبد الحليم وهي تخاطبه معبر ًة عن‬          ‫‪ -‬عليكم السلام ورحمة الله وبركاته»‪( .‬ص‬
  ‫رأيها في شخصية (بدر) المتمردة‪ ،‬والخلافية في‬                                                ‫‪)286‬‬
                                                       ‫وهذا المشهد الصادم‪ ،‬سلوكيًّا وثقافيًّا‪ ،‬بالنسبة‬
                                      ‫آن واحد‪:‬‬            ‫لمنار ينطوي عند تلقيه على مفارقة ساخرة‪،‬‬
     ‫«لا أقصد هذا يا أستاذ (‪ )..‬ولكني أقصد إنه‬           ‫وتفتح الباب أمام تأويلات وحوارات داخلية‪،‬‬
                                                       ‫ربما مشاكسة من طرف (منار)‪ ،‬لكن الروائية‬
                        ‫لطيف ودافئ»‪( .‬ص‪)83‬‬
     ‫وواضح هنا أن كلمة «يا أستاذ» تنطوي على‬         ‫أغلقت باب السرد لتترك القارئ أي ًضا أمام صدمة‬
      ‫مفارقة ساخرة لأنها تعني العكس‪ ،‬وتحدي ًدا‬                                              ‫التغيير‪.‬‬
‫تعني يا غبي‪ .‬ولهذا فقد فضلت الروائية أن تدرج‬
    ‫هذا التفسير المبطن داخل قولها‪ ،‬وكأنها تلفظه‬         ‫لقد كشفت الروائية عن أسلوب سردي يتميز‬
      ‫بصمت‪ ،‬أو في داخلها‪ ،‬ربما لمساعدة القارئ‬           ‫بالخفة والرشاقة‪ ،‬يتراوح بين مستوى بلاغي‬
   ‫من جهة لإدراك المرمى الحقيقي للقول الظاهر‪،‬‬       ‫رفيع ويهبط إلى مستوى صحفي‪ ،‬وأحيا ًنا سوقي‪،‬‬
   ‫ولتأكيد الطبيعة الساخرة لخطابها‪ .‬وفض ًل عن‬         ‫وكأنها تريد أن تحقق الهدف من عتبتها النصية‬
    ‫ذلك‪ ،‬نجد العشرات من التعابير والصيغ التي‬            ‫الوحيدة المستقاة من الإهداء الذي قدم به ابن‬
‫تطلقها شهرزاد أو بقية الشخصيات وهي تنطوي‬
   7   8   9   10   11   12   13   14   15   16   17