Page 15 - ميريت الثقافية رقم (27)- مارس 2021
P. 15
13 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
وتقف شخصيتا (بدر) و (منار) في القطب الآخر الخصوم الفكريين والمعارضين لرأي الحزب
من ثنائية الجدة والحفيد ،فهما مدنيان وأكثر مي ًل الحاكم الذي ينتمي إليه ،حتى تحول إلى بيدق
إلى التنوير والانفتاح ،ويعبران بصورة أو بأخرى فكري صريح ينفذ سياسة الحزب الأيديولوجية
بجمود وتصلب ،كما تجلى ذلك في طريقته بوصفه
عن المزاج الثقافي لشريحة الانتلجنسيا العراقية. رقيبًا ،في مراقبة الأعمال المسرحية والأدبية،
فشخصية (بدر) صورة للمثقف المتمرد ،وربما وخشيته من أي رأي يتعارض وسياسة حزبه
الذي لا يؤمن بحرية التعبير ،ويميل لفرض الرأي
العدمي ،الذي لم يعد يؤمن بشيء ،ولذا فهو الواحد .وبدا ضيق الأفق ومنغل ًقا في حواراته مع
يطلق أحكا ًما قد تقود إلى السجن أو الموت .ومن زميليه في العمل في المكتبة الوطنية (منار) و(بدر)،
الواضح أنه لا يطيق الحياة في ظل نظام استبدادي وغالبًا ما كان يتهمهما بالشيوعية ،بسبب الأفكار
متسلط ،ولذا كان يخطط بصمت للهجرة خارج والآراء الجريئة التي كانا يطلقانها أثناء الحوارات،
وبشكل خاص المقالب التي كانا يمررانها عليه،
العراق ،حيث نجده بعد الاحتلال يطل عبر
وسائل الإعلام الأجنبية مع إطلالة عبد الحليم كما كشف بعد الاحتلال عن نزعة انتهازية
شعيط ،ولكن مع الحفاظ على شخصية النهلستية ووصولية من خلال تملقه الرخيص للإدارة
(العدمية) الساخرة ،التي صدمت زميلته (منار) البريطانية لكي يضمن حصوله على اللجوء
عندما شاهدته في الفضائيات: السياسي.
« أما بدر فقد ارتج على منار ولم تعد تعرف
التعبير الجديد الذي انطبع على وجهه ..هل هو
التعبير الذي أسماه سارتر (أمل اليائسين) أم أنه
تعبير الداخلين إليها بدون أمل كما يقول دانتي»
(ص .)282ويمثل (بدر) أنموذ ًجا شائ ًعا للمثقف
والفنان والكاتب المستقل الذي مزقته سياسة
نظام الاستبداد الدكتاتوري ودفعته للهرب خارج
الوطن ،تخل ًصا من سيف الجلاد وتقارير العسس
وكتاب المخابرات.
ومن هنا نرى أن الروائية ميسلون هادي قد
نجحت إلى حد كبير في تقديم صورة بانارومية
عريقة لحياة المجتمع العراقي لمدة تقرب من
القرن ،من خلال منظور الجدة (شهرزاد) أو ًل،
ومن خلال منظور ثلاث شخصيات روائية شابة
غطت العقود الأخيرة التي غابت فيها الجدة،
بعد وفاتها بالسكتة القلبية .وهذا المنظور العام
للرواية اتسم بالسخرية والمفارقة والمحاكاة
الساخرة ،والكوميديا السوداء ،ليشكل فت ًحا حيًّا
للذاكرة العراقية ،وموسوعة غنية للتاريخ العراقي
الحديث ،وريادة مبكرة لنضج المنظور النسوي
في إعادة قراءة التاريخ السياسي والاجتماعي
والثقافي ،وهو ما سنجد له لاح ًقا انموذ ًجا روائيًّا
متقد ًما في رواية لطفية الدليمي الموسومة «عشاق
وفونوغراف وأزمنة» الصادرة عام ٢٠١٦