Page 99 - ميريت الثقافية رقم (27)- مارس 2021
P. 99

‫‪97‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

       ‫كانت الزوجة مر َهق ًة فلم تتكلم‪ .‬ولم تتحركا‬                                            ‫أن تساعدني!‬
    ‫فالصحراء قد أكلت الحياة من كل الجهات‪ .‬بعد‬                                ‫‪ -‬شياطيننا لا تعطي بلا مقابل!‬
                                                                         ‫‪ -‬أهب إليكم روحي وأمو ُت سعيدة!‬
          ‫يومين‪ ،‬سقطت الجدة على الأرض قائلة‪:‬‬
 ‫‪ -‬سامحيني يا ابنتي‪ ،‬لقد أردت أن أموت سعيدة‪.‬‬                                           ‫‪ -‬حيا ٌة يقابلها موت‪.‬‬
                                                               ‫ومضت إلي خيمتها يح ُفها الظلا ُم من كل مكان‪.‬‬
                     ‫لم تفهم الزوجة‪ ،‬لكنها قالت‪:‬‬              ‫خافت‪ ،‬وتفاءلت‪ .‬وبعد أيا ٍم جاءها الخبر السعيد‪،‬‬
                                    ‫‪ -‬سامحت ِك‪.‬‬                ‫وحملت الزوج ُة بعد سني ِن حرمان‪ .‬وجاءتها في‬
                                                           ‫خيمتها فلما رأتها قالت هو موتي في بطنها‪ ،‬ولكنها‬
  ‫بكت الجدة ب ُحرقة‪ ،‬وظلت على بكائها حتى ماتت‪.‬‬
‫واستسلمت الزوجة للمصير‪ ،‬وسارت في الصحرا ِء‬                                          ‫ابتسمت وضمتها قائلة‪:‬‬
  ‫على غي ِر هدى‪ ،‬تكاب ُد الموت اللعين الذي يسري في‬           ‫‪ -‬قر ُة عي ٍن لي ولك‪ .‬سأرعا ِك حتى يأتي أبوه من‬
 ‫جسدها لتحمي حياة ابنها‪ .‬ورأت على البعد فار ًسا‬
                                                                                            ‫سفره القصير‪.‬‬
                        ‫كالملاك‪ ،‬صاحت في وهن‪:‬‬                  ‫وح َّدثتها نفسها ش ًرا‪ ،‬ولم يم ِض إلا القليل حتى‬
                            ‫‪ -‬أنقذني‪ ،‬أنا أموت‪..‬‬           ‫جاءت القافلة تحمل ابنها على محفة‪ .‬رأتها على البعد‬
                                                             ‫فصرخت وولولت‪ ،‬واقتربت القافلة فراح يتساء ُل‬
                ‫وعندما اقترب منها قالت في حذر‪:‬‬
     ‫‪ -‬لا تقترب فأنا أحمل الموت على جلدي‪ ،‬ولكن‬                                                     ‫الناس‪..‬‬
                                                           ‫‪ -‬لا ندري ما أصابه‪ ..‬كنا في طريقنا إلى هنا فرأيناه‬
                        ‫أطعمني كي يعيش ابني‪.‬‬               ‫مع الأيام قد احمر وجهه وذبل جلده حتى ذاب‪ ،‬ثم‬
            ‫‪ -‬سيري ورائي حتى مضارب قومي‪.‬‬
 ‫تنطفيء الدنيا في عينيها ولكنها تمضي‪ ،‬تقترب من‬                              ‫سقط من على ظهر ناقته صري ًعا‪.‬‬
                                                            ‫صمت الناس في حزن وحيرة‪ ،‬حتى صاح أحدهم‪:‬‬
                               ‫القرية فيقول لها‪:‬‬
‫‪ -‬ابقي هنا ولا تقتربي‪ .‬سنجع ُل علي ِك خيم ًة تؤي ِك‪،‬‬              ‫‪ -‬هو والله الطاعون فأخرجوه من قريتكم‪..‬‬
                                                                ‫صرخت الأم وأسرعت إلى جسد ابنها لولا أن‬
                           ‫وستأكلين وتشربين‪.‬‬
   ‫وجا َء ره ٌط من قومه فنصبوا خيم ًة وتركوا فيها‬                              ‫منعتها النساء‪ .‬وقال كبيرهم‪:‬‬
   ‫الطعام والشراب وخ َلّفوها‪ ،‬وجلست الأم وحيد ًة‬                    ‫‪ -‬ربما كان خي ًرا لو دفناه خارج القرية‪..‬‬
 ‫تتراقص أشباح الموت أمام عينيها كل ليلة‪ ،‬ولكنها‬               ‫ودفنوه دون ُغس ٍل أو َك َفن‪ ،‬ولم ُيص ِل عليه أحد‪،‬‬
‫تأكل وتشرب وتحيا‪ ،‬حتى جاء وقت ولادتها‪ ،‬نامت‬                 ‫وبكت الجدة والزوجة حتى آخر الليل‪ ،‬وامتلأ أهل‬
    ‫على بطنها‪ ،‬وفرجت ساقيها‪ ،‬وصاحت صيحتها‬
  ‫الأخيرة في قلب الليل‪ ،‬صيحة رجت أرجاء القرية‬                                                  ‫القرية ُرعبًا‪.‬‬
‫المقابلة‪ ،‬وخرج الناس جمي ًعا على إثرها من بيوتهم‪،‬‬             ‫ثم لم يكن من مفر‪ .‬حدث الأمر سري ًعا‪ ،‬وتساقط‬
‫يشاهدون الطفل الموعود الذي خرج إليهم من رحم‬                 ‫الناس صرعى‪ ،‬وأسرع من َح َّي خار ًجا من القرية‬
                                                             ‫الموبوءة‪ .‬خرجت الزوجة والجدة والخادم‪ ،‬وحمل‬
                                         ‫الموت‪.‬‬            ‫البغل الصغير المؤونة على ظهره مره ًقا‪ ،‬وغاصوا في‬
‫اقترب خادم السيد في حذر‪ ،‬وسحب الطفل من عند‬                   ‫الصحراء مبتعدين بلا قرار‪ ،‬هم الذين لم يغادروا‬
                                                            ‫هذه البقعة من عشرات السنين‪ ،‬ولا يعرفون مكا ًنا‬
  ‫قدم أمه‪ .‬خرج يحمله والطفل يبكي بكا ًءا صاخبًا‬               ‫في الدنيا سواها‪ .‬عشر ُة أيا ٍم وعشر ٌة أخرى حتى‬
    ‫ُم ًّرا‪ ،‬ونظر إليه سيد القبيلة في َو َج ٍل وهو يشي ُر‬      ‫فقدوا الع ّد ومات البغل‪ ،‬واستراحوا إلى صخر ٍة‬
 ‫إلى رجلين بجانبه‪ ،‬أسرعا ُيشعلان النار في الخيمة‬
 ‫الموبوءة‪ .‬ارتفعت النار في الخيمة وفي عيون الناس‬                                      ‫فقال الخادم مقتضبًا‪:‬‬
   ‫من حولها‪ ،‬ودمدم سيد القبيلة وهو يبادل النظر‬                                             ‫‪ -‬عل َيّ أن أذهب‪.‬‬

                              ‫بينها وبين الطفل‪:‬‬             ‫وعرفوا أنه ذاه ٌب ليموت فتركوه‪ .‬وصاحت الجدة‬
                        ‫‪ -‬ما هذه الحياة إلا لعنة!‬                                           ‫تخاطب نفسها‪:‬‬

                                                                      ‫‪ -‬أنا شيطان الموت‪ ،‬أنا الشؤم العجوز‪.‬‬
   94   95   96   97   98   99   100   101   102   103   104