Page 101 - ميريت الثقافية رقم (27)- مارس 2021
P. 101

‫‪99‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

   ‫ذات ربيع‪ ،‬اندلعت نار الموت‪ ،‬جزع الك ُّل‪ ،‬تأز َّمت‬     ‫هنا بدأ انحدار نوري إلى الهاوية بقدمه اليسرى‪،‬‬
   ‫عقولهم‪ ،‬خرست ألسنتهم‪ ،‬وانطلق لسان نوري‪.‬‬                                       ‫فهل يبلغها عن قريب؟‬
‫أزهقت الحرب أرواح الشباب‪ ،‬فقد نوري ابن أخيه‪،‬‬
                                                        ‫كان منطق الأشياء الظاهر يقول إ َّن نوري سيج ُّن‬
       ‫وأولاد جيرانه‪ ،‬قاوم جسده النحيل الخم َر‪.‬‬        ‫دون شك بعد أن بدأ يذوق طعم الفقر قلي ًل‪ ،‬فالمال‬
  ‫صار نوري فجأة محل ًل استراتيجيًّا‪ ،‬وضي ًفا على‬
 ‫شاشات التلفاز‪ ،‬فقد كان شريك كأس لمع ِّد برامج‬             ‫شح كثي ًرا في الجيب‪ ،‬وبرودة الفراق مع تخلي‬
                                                           ‫حبيبته عنه‪ ،‬وملل الوحدة مع تفرق الأصدقاء‪.‬‬
                                      ‫سياسية‪.‬‬         ‫صرف ما بقي له من مال على العرق والم َّزة‪ ،‬وانقطع‬
  ‫لكن نوري لم يكن مقطوع الصلة بالسياسة‪ ،‬فقد‬               ‫عن الطعام تقريبًا‪ ،‬وغاب إدراكه للحياة‪ ،‬ودخل‬
‫خدم في الجيش سائ ًقا لرئيس الدولة في حينه‪ ،‬أمين‬
                                                                                  ‫عمره في شتاء مرير‪.‬‬
                                       ‫الحافظ‪.‬‬           ‫دون سابق إنذار‪ ،‬عادت زوجته إليه‪ ،‬اعتقدت أن‬
     ‫روى نوري في مجالسه الخاصة ج ًّدا أنه أنقذ‬        ‫أيامه قليلة‪ ،‬وأرادت أن ترث البيت وهو بقية ثروته‪.‬‬
     ‫الرئيس من الموت مرات‪ ،‬التحقق من ذلك كان‬             ‫دخل في سبات طويل‪ ،‬ق َّدر الأطباء أ َّن الكبد تلف‬
                                                         ‫تما ًما‪ ،‬وضعف القلب‪ ،‬واهترأ دماغه‪ ،‬وتوقعوا له‬
                  ‫صعبًا‪ ،‬لكن تكذيبه كان أصعب!‬
    ‫عاد المال‪ ،‬وتدفق في جيوب نوري‪ ،‬ما ضيعه في‬                ‫حياة قصيرة لن تتجاوز أسبوعين أو ثلاثة‪.‬‬
                                                            ‫صار جلده أصفر كورق الخريف‪ ،‬واستعدت‬
               ‫الماضي‪ ،‬عاد إليه أضعا ًفا مضاعفة‪.‬‬      ‫الزوجة لمراسم الدفن‪ ،‬لكن نوري لم يكن مستعج ًل‪،‬‬
‫لم يكن راتبه التقاعدي‪ ،‬أو عمله الجديد مصدر غناه‬
                                                                                 ‫خالف أوهام معارفه‪.‬‬
     ‫الفاحش‪ ،‬بل زواج ابنته من تاجر أغنام ثري‪.‬‬         ‫أح َّس بوجود نهى بقربه‪ ،‬استرجع داف ًعا ما للعيش‪،‬‬
    ‫التحق نوري بدورة حياة جديدة‪ ،‬ولم يعد أحد‬
  ‫يجرؤ على التنبؤ بمصيره‪ ،‬أو بتوقع موعد وفاته‪.‬‬            ‫فابتعد عنه الموت كأنه زاهد فيه‪ ،‬د َّبت الحياة في‬
‫عيد ميلاد نوري السبعين كان مختل ًفا عن سابقيه‪،‬‬         ‫جسده من إصبع قدمه‪ ،‬ارتعشت في بطنه‪ ،‬تنفست‬
 ‫واشترط على المدعوين ألا يشربوا العرق‪ ،‬فقد تاب‬
                                                              ‫من رئتيه‪ ،‬فتحت عينيه‪ ،‬تكلمت على لسانه‪:‬‬
                                     ‫عنه تما ًما‪.‬‬                                ‫‪ -‬كأس عرق يا نهى‪.‬‬
 ‫كان وجه نوري متور ًدا‪ ،‬لا من حرارة الإيمان‪ ،‬بل‬
                                                       ‫وجود زوجته أعطاه مناعة ما ضد الخطر‪ ،‬فاستمر‬
   ‫من أثر الخمر المديد على جسده‪ ،‬ولكنه ظ َّل قو ًّيا‬  ‫بوجود إنساني لا هو بحياة طبيعية‪ ،‬وما هو بالموت‬
                                  ‫بشكل عجيب!‬
                                                                                             ‫القاصم‪.‬‬
‫غادر المحتفلون‪ ،‬وتراهن الشباب منهم على حضور‬               ‫أضمرت نهى أن تتركه‪ ،‬لولا أن اكتشفت حملها‬
                               ‫عيد ميلاده المائة‪.‬‬
                                                                 ‫بتوائم ثلاثة‪ ،‬فأصبح الطلاق مستحي ًل‪.‬‬
     ‫سمع ابن نوري حوارهم‪ ،‬قال لأحد المراهنين‬             ‫اضطر للعمل بعد عقدين من زمن عاشهما أمي ًرا‬
                                       ‫ساخ ًرا‪:‬‬           ‫دون تاج‪ ،‬سائق سيارة أجرة‪ ،‬قادها ببراعة‬

     ‫‪ -‬وهل أنت واثق من بقائك حتى ذلك اليوم؟!‬                                  ‫ليعيل عائلته الكبيرة‪.‬‬
 ‫ه َّز نوري رأسه مواف ًقا ابنه‪ ،‬وداهمته حالة انتشاء‬      ‫قبل نهاية ذلك العام‪ ،‬اصطحب أ َّمه لزيارة‬
                                                        ‫قريبة لها‪ ،‬عند المنعطف داس السرعة بدل‬
                                     ‫مبالغ بها‪.‬‬          ‫الإيقاف‪ ،‬ارتطمت السيارة بالصخر‪.‬‬
    ‫و َّدع ضيوفه حتَّى مصطبة الدرج‪ ،‬انزلق ْت عند‬           ‫قضى الحادث على والدته‪ ،‬لم يبك‬
                                                       ‫عليها‪ ،‬ابتسم حين نجا‪ ،‬تساءل الناس‬
                     ‫الدرجة العليا قد ُمه اليسرى‪.‬‬
       ‫تدحرج ككرة‪ ،‬هبط بعنف‪ ،‬استق َّر في القعر‪،‬‬                         ‫في العزاء عن دموعه‪.‬‬
                                                        ‫حيًّا‪ ،‬ثم ًل‪ ،‬يغني تارة‪ ،‬ويشتم أحيا ًنا أخرى‪ ،‬مات‬
               ‫وارتط َّمت رأسه بالبوابة الحديدية‪.‬‬     ‫ربع الجيران‪ ،‬وبلغ نوري الستين دون عناء‪ ،‬تقاعد‬
   ‫نزل ابنه بهدوء‪ ،‬لم يستعجل‪ ،‬استند إلى خبرته‪،‬‬
‫توقع نجاة الأب المقاوم‪ ،‬وصل إليه‪ ،‬أخذ يتحقق من‬                                  ‫بهدوء‪.‬‬

                     ‫الأضرار‪ ،‬ويحصي الجروح‪.‬‬
   96   97   98   99   100   101   102   103   104   105   106