Page 44 - merit 49
P. 44

‫والقضائية بسلطة الناقد لتثبيت أحكامها‬                   ‫يحتاج الكاتب إلى الناقد "احتياج‬
‫بالإدانة الجنائية‪ ،‬كما حدث مع الحطيأة‬
 ‫عندما هجا الزبرقان بن بدر‪ ،‬فاستشهد‬                   ‫ضرورة"‪ ،‬فلا يكفي أن يكون العمل‬

     ‫عمر بن الخطاب بحسان بن ثابت؛‬                        ‫الفني جي ًدا في ذاته‪ ،‬وخاصة مع‬
   ‫بوصفه ناق ًدا‪ ،‬عالمًا بالشعر‪ ،‬فكان من‬            ‫كثرة الإنتاج الفني بأنواعه وأشكاله‬
   ‫نتيجة هذه الاستعانة حبس الحطيأة‪.‬‬
                                                      ‫وتعدد بيئاته وكثرة الداخلين إلى‬
     ‫وكذلك تفعل السلطات القضائية في‬
   ‫العصر الحاضر في الحكم على الكتاب‬                  ‫ساحاته والمتعلقين به‪ .‬إنه يحتاج‬

     ‫المتهمين بتهم الزندقة والتعدي على‬               ‫مع َج ْودة العمل الذاتية ناق ًدا جي ًدا‬
    ‫الأديان مث ًل‪ ،‬إذ لا بد من وجود أهل‬                ‫وبار ًعا‪ ،‬ليمنحه السلطة الإبداعية‪،‬‬
 ‫المعرفة‪ ،‬وهذا أساس من أسس القضاء‬
                                                     ‫فكأن ذلك الرأي النقدي هو تأشيرة‬
                                ‫العادل‪.‬‬
        ‫ومن عجائب سلطة النقد الخفية‬                        ‫دخول إلى عالم القراء والحضور‬
‫المهيمنة ما يبدو في التعامل مع مجموعة‬
      ‫القصائد الجاهلية التي تم التسليم‬               ‫الإعلامي والتفاعل‪ ‬مع‪ ‬العمل‪ ‬نفسه‪.‬‬
     ‫لها في كل العصور على أنها أفضل‬
   ‫الشعر‪ ،‬وهي «المعلقات»‪ .‬إن للناقد في‬                           ‫وكتب التراث حافلة بعشرات الأمثلة‪.‬‬
    ‫هذه المسألة العابرة للأجيال والزمن‬                ‫أسوق بعجالة موقف الشاعر الفرزدق مع الناقد‬
      ‫تأثيره في كل من جاءوا بعده‪ ،‬فلم‬
 ‫ينتقد أحد تلك القصائد‪ ،‬ولم ينقص من‬                       ‫عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي‪ ،‬فقد بلغ‬
  ‫شأنها‪ ،‬ولم يسع أحد إلى أن يزحزحها‬                    ‫الناقد مبلغه من الفرزدق‪ ،‬حتى أغضبه‪ ،‬وهجاه‪،‬‬
     ‫عن مكانتها الرفيعة التي تبوأتها منذ عرفت‬
  ‫أيام الأمويين وحتى الآن‪ .‬هل كان الناقد الذي‬            ‫ومع كل ذلك لم يترك الناقد الحضرمي دوره‬
  ‫اختارها خبي ًرا عار ًفا إلى هذه الدرجة من العلم‬        ‫في تتبع أخطاء الفرزدق حتى أغضب الفرزدق‬
   ‫واليقين؟ لا أظن ذلك‪ ،‬إنما يعود الأمر كله إلى‬
   ‫تلك السلطة الخفية السحرية للناقد التي تدفع‬               ‫ودفعه لأن يهجوه؛ معب ًرا عن سلطة الناقد‬
      ‫الآخرين عمو ًما ‪-‬إلا ناد ًرا‪ -‬على أن يتأثروا‬        ‫القوية فيه وفي المتلقين‪ ،‬ويبين صاحب كتاب‬
      ‫بها وبسحرها‪ ،‬فظلت المعلقات أجود الشعر‬              ‫الموشح هذه السلطة بقوله‪« :‬وبلغ الفرزدق أن‬
    ‫الجاهلي‪ ،‬وتوارثت الأجيال ذلك‪ ،‬حتى استقر‬               ‫الناس يقولون‪ :‬قد أقوى الفرزدق‪ ،‬ولم يبلغه‬
       ‫في وعيهم أنها لا تضاهى‪ ،‬ولا ُتنقض‪ ،‬ولا‬           ‫بعد أن قائله ابن أبى إسحاق‪ ،‬قال‪ :‬فما بال هذا‬
   ‫ُتنتقد‪ ،‬وليس فيها أي عيب‪ ،‬وهي أعلى النماذج‬            ‫الذى يجر خصييه فى المسجد ‪-‬يعنى ابن أبى‬
‫الأدبية التي لن يصل أحد من اللاحقين بها‪ .‬إنها‬             ‫إسحاق‪ -‬لا يجعل له بحيلته وجها؟»‪ .‬في هذا‬
  ‫أصبحت «قصائد مقدسة» و»معجزة» لكثرة ما‬               ‫التعليق يظهر مدى تأثير الناقد في المتلقي والمبدع‬
   ‫قيل حولها‪ ،‬ولكثرة الدراسات والأبحاث التي‬
 ‫تناولتها قدي ًما وحديثًا على ضوء المناهج النقدية‬                                      ‫على حد سواء‪.‬‬
                                                             ‫بل سبق في عهد عمر بن الخطاب ‪-‬رضي‬
                                       ‫المختلفة‪.‬‬            ‫الله عنه‪ -‬أن استعانت السلطتان السياسية‬
  ‫استمرت سلطة الناقد متقدمة على سلطة المبدع‬
 ‫حتى مجيء المتنبي‪ .‬في ذلك العصر تنازع الناقد‬
 ‫والمتنبي القوة والهيمنة والتأثير‪ ،‬ولم تعد أحكام‬
   39   40   41   42   43   44   45   46   47   48   49