Page 81 - merit 49
P. 81

‫‪79‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

‫الضيف غير المرحب به‪ .‬أُسدل ستارة نافذتي‪ ،‬لكنه‬                ‫ما إن أكون قد فتحت ستارة النافذة كي يغمر‬
‫يبقى حاض ًرا معي؛ أرقب عبر بصيص ضوء شمس‬                   ‫الضوء غرفة مكتبي‪ ،‬وأشرع في طقوسي اليومية‬
                                                           ‫في الانشغال بمتابعة الأخبار‪ ،‬والبحث‪ ،‬والكتابة‪،‬‬
   ‫الظهيرة انعكاس ظله متسل ًل إلى مكتبي؛ متماي ًل‬          ‫حتى يبدأ زيارته اليومية غير المرحب بها؛ فيطل‬
    ‫جيئ ًة وذها ًبا؛ وبجسده يحاول الارتطام بزجاج‬          ‫عليَّ من خارج نافذة مكتبي المشرف على الشارع‪.‬‬
  ‫النافذة لتذكيري حين إسدالي الستارة‪ ،‬بأن دقائق‬            ‫ويعاود استدراجي للعبة التركيز‪ ،‬وكلما حاولت‬
 ‫الموعد الذي بيننا لم تنق ِض بعد؛ لكنني في الأساس‬
   ‫لم أقبل مواعيده‪ .‬لقد كفتني ستارة المكتب تطفل‬             ‫إهماله يكرر تمايله الرشيق حتى يستحوذ على‬
   ‫الضيف غير المرغوب‪ ،‬وانهمكت فيما أنا بصدده‪،‬‬               ‫اهتمامي‪ ،‬فأنخرط في انجذاب شعوري وتركيز‬
                                                           ‫طاقتي لمشاركته الكاملة؛ تماما كصنيع أخصائي‬
             ‫وتوقف إحساسي بوجوده فتلاشى‪.‬‬                ‫التنويم المغناطيسي حينما ُيدخل الشخص المُن َّوم إلى‬
                                                        ‫حالة استجابة خاصة لموجات العقل الباطن ونشوة‬
    ‫الثلاثاء ‪ ١٧‬مايو ‪٢٠٢٢‬م‬
                                                                                               ‫التركيز‪.‬‬
 ‫أُقلِّب صفحات الويب‪ ،‬أراجع واجباتي اليومية‪ ،‬أبدأ‬            ‫لم استسلم لدعواته محاو ًل الالتفات بعي ًدا عنه‬
   ‫بوضع الخطوط العريضة لمقالي الأسبوعي‪ .‬ثمة‬               ‫إلى أوراقي‪ ،‬فيعاود الك َّرة حتى يفلح في قطع حبل‬
   ‫شيء يشغلني‪ ،‬ترى ما هو؟ أنهض من مجلسي‪،‬‬                    ‫أفكاري‪ ،‬أحاول إهماله والعودة للإمساك بحبل‬
   ‫لتنشيط الدورة الدموية في ساق َّي‪ ،‬أزيح الستارة‬           ‫الأفكار المتقطع‪ ،‬ولكن سرعان ما أفقد تركيزي‬
   ‫لأراه هناك مستق ًّرا عند حافة النافذة الخارجية‪،‬‬       ‫فيما أفعل‪ ،‬وأعود لتتبع حركته النشطة؛ فتبدأ لعبة‬
   ‫بدأ ذلك الضيف يضبط موعده على وقع ساعتي‬                ‫التركيز فيما بيننا‪ ،‬وتبادل حملقة كل منا في عيني‬
     ‫البيولوجية‪ ،‬وكأنه يضرب موع ًدا في اللاوعي‪،‬‬
                                                                                                 ‫الآخر‪.‬‬
 ‫فيفرضه على أجندتي اليومية عبر تحفيزي لأصبح‬                  ‫ينتابني شعور بأنني أنتقل من كرسي مكتبي‬
                                  ‫مترقبًا مجيئه‪.‬‬             ‫متجاو ًزا الحاجز الزجاجي‪ ،‬لأسبح في ملكوت‬
                                                           ‫فضائه الخارجي‪ ،‬متتب ًعا إيحاءاته؛ وأسرح حتى‬
     ‫بمجرد شعوره بوجودي يبدأ حراكه الدؤوب؛‬                 ‫يتملكني دوار خفيف‪ .‬أغمض عين َّي فأراه في تلك‬
 ‫طنينه؛ رفرفته؛ وكأن م ًّسا كهربيًّا أصابه‪ ،‬أو كأن‬         ‫الغمضة حاض ًرا أكثر وضو ًحا يملأ مدى النظر‪.‬‬
                                                         ‫ينتابني الكرى فأغفو لوهلة‪ ،‬أو هكذا أحسبها‪ ،‬وما‬
     ‫فعل فاعل أطلق العنان لزنبركه الداخلي‪ ،‬وقام‬           ‫إن أعود من غفوتي‪ ،‬يكون ضيفي غير المرحب به‬
                     ‫بتفعيل تلك الحركة الدؤوبة‪.‬‬
                                                                             ‫قد غادر المشهد دون رجعة‪.‬‬
       ‫يرقبني‪ ،‬متيقن أنا من ذلك‪ ،‬أكاد أرى عينيه‬
‫السوداوين؛ رفرفة أجنحته الشفافة الدؤوبة‪ ،‬جهده‬                  ‫الاثنين ‪ ١٦‬مايو ‪٢٠٢٢‬م‬

     ‫المتواصل ليطفو مستق ًّرا‪ ،‬رغم هبة الهواء التي‬      ‫ها هو اليوم مجد ًدا‪ ،‬يقترب كثي ًرا من زجاج النافذة‪،‬‬
‫تحرك أغصان السنديانة الوحيدة عند مدخل المنزل‪.‬‬              ‫ويفقد التفريق ما بين الفضاء والعازل الزجاجي‬
‫يقترب مجد ًدا؛ يحملق بفراسة فضولية كلما اقترب‬
                                                        ‫بيننا‪ ،‬فيرتطم به ويعاود الكرة مرا ًرا بعد أن يبتعد‪،‬‬
    ‫كثي ًرا ليقلص المسافة فيما بيننا؛ يرتطم بالعازل‬      ‫ليس لطويل أجل‪ ،‬بل لأجزاء من الثانية يعود فيها‪،‬‬
‫الزجاجي محد ًثا طرقة خفيفة‪ .‬ودونما سابق إيعاز‪،‬‬
                                                           ‫كأنه يل ُّح على الدخول؛ لكنه غير مرحب به؛ وهو‬
           ‫يغادر المشهد خلس ًة‪ ،‬كأن طار ًئا أل َّم به‪.‬‬     ‫لا يكل في دأبه؛ ويلح في طلب أمر لا أدركه؛ رغم‬
                                                          ‫محاولتي دون طائل قراءة فحوى رسائل إلحاحه‬
    ‫الأربعاء ‪ ١٨‬مايو ‪٢٠٢٢‬م‬
                                                                                        ‫علَّني أستوعبها‪.‬‬
‫دار بيننا حوار غير منطوق‪ ،‬أرى عينيه‪ ،‬أو ما أعتقد‬              ‫اليوم لد َّي الكثير لأنجزه‪ ،‬ولا وقت لد َّي لهذا‬
‫أنني أرى‪ ،‬فضيفي الدبور يمتلك من الأعين خم ًسا‪،‬‬
‫رغم أنني أحملق في العينين السوداوين اللتين أرى؛‬
   76   77   78   79   80   81   82   83   84   85   86