Page 80 - merit 51
P. 80

‫العـدد ‪51‬‬  ‫‪78‬‬

                                                        ‫مارس ‪٢٠٢3‬‬

‫دينا نبيل‬

‫مركب ورقي‬

 ‫على الأسفلت الذي تش َّرب من رائحة السمك وملوحة‬                                        ‫إلى جوار المركب‪..‬‬
   ‫البحر وصخب البائعين والمشترين‪ ،‬كان يسير كل‬           ‫كان عمله في الصباح؛ ُينظف ال ِشباك ويخيط ما يتلف‬
                                                         ‫من حبا ٍل و ُدبار ثم يحملها ويهرول خلف الصيادين‬
 ‫يوم عند ساعة الصبحيَّة منذ أن وطأت قدماه المدينة‬
 ‫على ظهر عربة خشبية وسط ألواح الثلج‪ .‬كانت زرقة‬                                          ‫في الميناء الغربي‪.‬‬
                                                            ‫أما في المساء‪ ،‬فكان يدور في الميناء يجمع الأوراق‬
     ‫البحر أول ما صافح عينيه لتحل محل الخضرة‬               ‫المل َّونة و ُفرخ الكارتون ليأخذها ويجلس على حافة‬
                  ‫القابعة في جدران ذاكرته الخلفية‪.‬‬          ‫السور‪ ،‬يمضي ساعة تلو الأخرى ُيش ِّكل الأوراق‬
                                                         ‫على هيئة أسماك ومراكب ورقية ثم يلقيها في البحر‪،‬‬
    ‫ليته يخبر أباه أن النسور لا تعيش في البحر كما‬
     ‫يز ُعم وإنما نوارس شاهقة البياض‪ ،‬لا تك ُّف عن‬                  ‫يرمقها وهي تسبح قلي ًل حتى تتلاشى‪.‬‬
 ‫الرقص في الهواء بخيلاء‪ ..‬ليته يخبره أ َّن البحر ليس‬           ‫عاد ٌة لم تفارقه منذ طفولته عندما كان يصنع‬
     ‫أسود كالأرض وإنما أزرق بلون السماء‪ ،‬تفارقه‬         ‫المراكب من بقايا الطائرات الورقية ويلقيها في الترعة‬
   ‫زرقته فقط عندما تغيب عنه الشمس‪ ،‬فيستحي أن‬               ‫التي تط ُّل عليها أر ُض والده‪ ،‬يسرع الأولاد نحوه‬
     ‫يزعج السماء الغافية فوقه بلونه الب َّراق فيلتحف‬     ‫ليشتروا منه المراكب ويشرعوا في عمل سباق بينها‪،‬‬
                                                           ‫فيشاكسهم ويصنع أسما ًكا ضخمة يلقي بها هي‬
                       ‫بالسواد ريثما تستيقظ هي!‬            ‫الأخرى في الترعة‪ ،‬فتجري لتلاحق مراكبهم حتى‬
‫لع ِّدة أشهر وهو جالس في ظل المركب أو مهرول خلف‬            ‫تكاد تبتلعها‪ .‬عادة طفولية استحالت في صباه إلى‬
‫الصيادين الكبار‪ ..‬لم يتذ َّوق ثمار البحر التي حلم بها‬
                                                                                           ‫أمنية وقرار‪.‬‬
  ‫اللهم إلا من بعض الأسماك الرديئة التي تفيض عن‬            ‫منذ أن ق َّرر أن يترك الأرض ويسلك درب البحر‪،‬‬
   ‫حاجة الصيادين فيلقونها إليه ليشاطرها مع بعض‬              ‫انبرى أبوه يس ُّب ويلعن ابنه الوحيد الذي آثر أن‬
                                                          ‫يسلت الطين عن قدميه ليغرزهما في المالح‪ .‬لم يقنع‬
                                ‫الهوام من القطط‪.‬‬         ‫الأب يو ًما بحجج ابنه الواهية أن المستقبل في المدينة‬
    ‫أُعجب به شيخ الصيادين لمهارته اليدوية في ربط‬        ‫وأن بحرها يمتلك ثما ًرا لا تع ُّد ولا تحصى‪ ،‬بل تفوق‬
  ‫الشباك و َحبك ال ُغرز وال ُعقد‪ ..‬لكن ظل الحلم يراوده‬  ‫ثمار الأرض التي تمص عرقهم ودماءهم حتى تربو‪.‬‬
‫أن يقف معتد ًل فوق سطح المركب وينطلق بها مفار ًقا‬           ‫ولم تنفع نصيحة الأب في الولد اللاهي بالأوراق‬
                                                         ‫ولم يكف صوته المبحوح عن ترديد أ َّن الأرض أمان‬
                      ‫اليابسة بهمومها وأشجانها‪..‬‬           ‫والبحر غ َّدار تغطيه النسور‪ ،‬يمنحك يو ًما ويسرق‬
           ‫«البحر غ َّدار يا بني‪ ..‬وأنت عظمك طري»‪.‬‬        ‫منك ُعم ًرا! كلامه يرتطم برأس ولده الصلد ينكسر‬
       ‫من عاش عمره على الأرض لن يصادقه البحر‬
 ‫بسهولة‪ ..‬عليه أن يبذل عم ًرا آخر ويدفع الكثير حتى‬                         ‫متناث ًرا وتنكسر معه نفس أبيه‪.‬‬
                                                        ‫وعندما ح َّل موعد الرحيل‪ ،‬لم يصافحه أبوه أو يو ِّدعه‬
                                ‫ُيؤذن له بالقبول!‬
‫كانت هذه كلمات الصيادين ليصرفوه عن تلك الفكرة‬              ‫سوى بنظرات متح ِّسرة كمن يشيِّع ابنه إلى مثواه‬
 ‫التي ملكت عليه عقله حتى صار يسر ويعلن بها لكل‬                                                  ‫الأخير!‬

                                     ‫من يقابله‪..‬‬
    ‫سنة تج ُّر أخرى وصبر يجت ُّر مرارة الانتظار بين‬
 ‫سفن كبيرة وبواخر مح َّملة ببضائع وأرصفة تزدحم‬
   75   76   77   78   79   80   81   82   83   84   85