Page 81 - merit 51
P. 81

‫‪79‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

                   ‫حتى وصل إلى الورشة الكبيرة‪.‬‬                ‫عليها الأوناش حامل ًة صناديق بحرو ٍف غريبة‬
‫الأرجاء تفوح برائحة عطر قوية تم إحراق زيته للتو‪..‬‬           ‫وأصحابها بسحن متباينة ينتظرون تسليمها إلى‬
                                                          ‫الجمرك‪ ..‬كم تمنَّى لو كان صعوده إلى إحدى تلك‬
     ‫في منتصف الورشة‪ ،‬تقف بكامل بهائها‪ ..‬مركب‬          ‫السفن ممكنًا فينطلق إلى المجهول ولا يلوي على شيء!‬
   ‫كبيرة من ورق الشمواه الأصفر وقد ُز ِّين شراعها‬      ‫وللمرة الأولى يصبح صبي صياد على مرك ٍب للصيد‪..‬‬
   ‫بورق السوليفان الأخضر والأزرق‪ .‬اقترب يش ُّمها‬       ‫وللمرة الأولى يع ُّب صدره برائحة البحر فترت ُّد روحه‬
  ‫وقد امتزجت برائحة بخور‪ ،‬لوهلة تذ َّكر عطر والده‬       ‫ساكنة إلى شواطئها‪ ..‬وسري ًعا ركب المركب الخشبي‬
    ‫الذي كان يضعه أيام مجالس الحضرة في القرية‪،‬‬          ‫الذي راح يغز مياه البحر بقو ٍة معلنًا عن صلابته في‬
  ‫حتى قاطعه صياح النوارس بالخارج مناد ًيا عليه‪..‬‬
   ‫أخذ يدفع المركب إلى الخارج حتى إذا لامس الهواء‬                                    ‫وجه الماء المتلاحق‪.‬‬
   ‫طرف شراعها انفرد عن آخره‪ ..‬وحتى إذا لامست‬              ‫تخيَّر الصيَّاد بقعة محفورة في رأسه ليقوم بعزمه‬
    ‫الماء اعتلى المركب وراح البحر يسحبه إلى الداخل‪.‬‬
 ‫شبكة الصيد إلى جواره‪ ..‬يحملها ويفردها على سطح‬               ‫بإلقاء الشبكة في الهواء فتنفرج باسطة ذراعيها‬
  ‫الماء‪ ،‬فتتقافز إلى داخلها أسماك فضية لامعة‪ ..‬فر ًحا‬                               ‫محتضنة سطح الماء‪.‬‬
  ‫بصيده الوفير أخذ يش ُّد الشبكة ليخلص السمك من‬
‫قبضة الحبال ويضعها في دلو الثلج‪ ..‬ولكن كلما مس‬         ‫طوال ساعات لم يفكر أ َّن عليه الانتظار كل هذا الوقت‬
  ‫سمكة تستحيل سمكة ورقية‪ ،‬فإذا أمسكها وألقاها‬          ‫حتى يتجمع بالشبكة ما يراه الصيَّاد كمية معقولة من‬
‫إلى البحر تعود حيَّة مجد ًدا وتختفي بلا عودة! حينها‬
   ‫اندفعت حوله أسراب من النوارس شاهقة البياض‬                           ‫السمك قبل شد الشبكة مرة أخرى‪.‬‬
                                                            ‫تسللت يداه نحو أوراق الجرائد في القارب وأخذ‬
                         ‫تدور في حلقات وتصيح‪.‬‬               ‫يش ِّكل ويطوي ويلقي في البحر‪ ..‬فتخرج من بين‬
     ‫لم يتردد‪ ،‬ألقى الشبكة من جديد‪ ،‬فتقافز السمك‬        ‫يديه أسماك ورقية‪ ..‬أسماك بوري كبيرة وشراغيش‬
    ‫مجد ًدا إلى داخل الشبكة‪ ،‬وعندما م َّسها استحالت‬     ‫صغيرة‪ ،‬تلك فاغرة فمها لم تهنأ بعد بمضغ ال ُطعم‪..‬‬
   ‫أسما ًكا ورقية‪ ..‬صارت غنيمته كلها بعض أوراق!‬         ‫وأخرى عيناها مبحلقتان كأنها تنظر ُرعبًا إلى روحها‬
     ‫أحس بثقل المركب تحت قدميه وتخلل الماء إليها‬         ‫لحظة مفارقة جسدها أو هل ًعا إثر فرارها من قبضة‬
   ‫وتف َّسخت مما جعله يتأرجح ويصرخ في الأسماك‬            ‫سمكة كبيرة أو اقتراب نورس كان ُيحلِّق فوق الماء‬
‫«ارحموا من رأس ماله يذوب!»‪ .‬صياح النوارس يعلو‬
‫والأسماك تشرئب برأسها لوهلة ثم تغوص في الماء‪..‬‬                             ‫مباشرة ويم ُّد منقاره ليلتقطها!‬
‫حتى تهلهل المركب تما ًما وأصبح هلا ًما مائ ًعا‪ ،‬فسقط‬   ‫يلتقط الصياد طرف الشبكة ويش ُّد بق َّوة‪ ..‬ينادي عليه‬
   ‫في الماء من فوره‪ ..‬أخذ يصارع دخول الماء في فمه‬        ‫ليشد معه الشبكة الممتلئة عن آخرها‪ ..‬لم ينتبه حتى‬

                ‫ويبعد وخ ًزا بار ًدا راح ينغز كتفيه‪.‬‬        ‫ز َّجه الصياد وزجره بعنف ليستيقظ من غفوته‪.‬‬
   ‫نظر خلفه‪ ،‬كان الصياد يقف عند رأسه يربت على‬                            ‫«الولد هذا لا يصلح على المركب!»‬
    ‫كتفه ليوقظه «أنا أقنعت ريسنا أن نعطيك فرصة‬
                                                         ‫كان قرا ًرا حاس ًما من شيخ الصيادين بعدم اقترابه‬
                       ‫ثانية‪ ..‬ج ِّهز نفسك باك ًرا!»‪.‬‬                         ‫من المركب أو البحر مجد ًدا‪.‬‬
 ‫لم يتمالك نفسه من الفرح‪ ،‬فقبل رأسه وأسرع نحو‬
                                                        ‫ليلتها‪ ..‬بكى بكا ًء مري ًرا وبات ليلته في حضن المركب‬
                           ‫المركب ليج ِّهز الشبكة‪..‬‬                                          ‫والرمال‪..‬‬
  ‫ظل محتضنًا إياها طيلة المساء وجلس على الشاطئ‬
‫ينظر نحو النوارس في السماء‪ ..‬تغطس لتصيد السمك‬                 ‫انتبه لد ٍّق فوق رأسه‪ ،‬على حافة القارب‪ ،‬كانت‬
  ‫ثم يراها ترتفع وتبرق تحت ضوء القمر بلون ورق‬             ‫طيور النورس البيضاء مجتمعة تنقر الخشب‪ ..‬مد‬
                                                         ‫يده نحوها‪ ،‬ما إن يم َّسها حتى تستحيل إلى أسراب‬
                                        ‫الفضة‪.‬‬          ‫نوارس ورقية‪ ،‬تطير في دوائر ثم تقف أمامه‪ ،‬تنتظر‬

                                                                           ‫كما لو كانت تدعوه أن يتبعها‪.‬‬
                                                          ‫وبالفعل يدفعه الفضول إلى ملاحقتها بيد أ َّنه يق ِّدم‬
                                                         ‫رج ًل ويؤ ِّخر أخرى‪ ،‬يسير وراءها متوجس الخطى‬
   76   77   78   79   80   81   82   83   84   85   86