Page 82 - merit 51
P. 82

‫العـدد ‪51‬‬                                      ‫‪80‬‬

                                                                  ‫مارس ‪٢٠٢3‬‬

‫محمد فيض خالد‬

‫فتاة الغروب‬

    ‫هانئة في ال َبند ِر‪َ ،‬حين َكان َر ُّب ال ُأسرة َيعم ُل في‬     ‫لا َيعرف أ َح ٌد ِس َّر ُخروجها في َها ِته ال َّساعة من‬
    ‫مصن ِع ال ُّسك ِر‪َ ،‬م َّرت عليها َكحل ٍم جميل ُسرعان‬          ‫ال ُغرو ِب‪ ،‬ت َترامى عشرات الأسئلة المُحيرة في طريقها‬
     ‫ما استيقظت منه بعد أن ُف ِجعت بفقد ِه‪ ،‬فلا ُب َّد‬              ‫ِحين ال ِّذهاب و ِحين ال َعودة‪ ،‬ما َجدوى وقتها الذي‬
 ‫وأن ت َعود العائلة الأم وأبناءها‪ ،‬إذ كيف للنساِء أن‬                    ‫َتقضيه ُمنف ِردة َشا ِخصة نحو ال ُأف ِق المُخ َّضب‬
  ‫يعشن بلا ر َج ٍل في هذا ال ِّزحام ال ُّذكور ِّي المُخيف‪،‬‬
 ‫هكذا يعتقد ُك ُّل قروي َغيور َساذج‪ ،‬يرى في َصو ِن‬                ‫بلحظا ِت ال َوداع عند السنط ِة‪ ،‬من َفو ِق ُظه ِور َدوابهم‬
                                                                  ‫يرمونها بنظراتهم المُفترسة‪َ ،‬تدور أحاديثهم في‬
      ‫عرضه وشرفه ولحمه أع َّز ما يملك‪ ،‬ولا طعم‬                    ‫َنجوى ُمقلقة‪َ ،‬سري ًعا ت َتحول بجمج ٍمة َتندفع في‬
   ‫للحيا ِة إذا َفق َد المر ُء َشرفه‪َ ،‬سار َع عمها فأ َحض َر‬      ‫َتهو ٍر لتنهش شرف الغافلة‪ ،‬و َتمس سمعتها دون‬
  ‫العائلة الكئيبة على مض ٍض‪ ،‬كانت الفتا ُة شهية كل‬                ‫تحف ٍظ‪َ ،‬علِمت أخي ًرا ما ُيحاك من َحولها فازداد‬
                                                                  ‫أ َسسخيارفةا َ ِتع أواللمسنو ارلد ُّيسةوءم‪،‬نلم‬  ‫َتغافلها‪ ،‬واسلمت ِفكرها‬
     ‫نفس‪ ،‬حظيت بفتنة وغواية‪ ،‬ليِّنة العود‪ُ ،‬ممتلئة‬                                                                ‫نو ٍع َخاص‪ ،‬اشغلها عن‬
 ‫ر َّيانة بما ِء ال َّشباب‪ ،‬تفو ُر فورة أنثوية أ َّخاذة‪َ ،‬غ َّطى‬  ‫َيسأل أ َحد نفسه‪« :‬ماذا ُيريد المُتر ِّبصون من َفتاتهم‬
                                                                  ‫ال َّطريدة التي فجعتها الدنيا سنين طويلة‪ ،‬فالقتها‬
   ‫جمالها الساحر ُك َّل جمال‪ُ ،‬مشرقة ال َّطلعة‪ ،‬ذكية‬              ‫في هذا الفضاء المُلتهب؟!»‪ ،‬لكن صدورهم ال َحرجة‪،‬‬
   ‫و َّقادة ال ِّذهن ُمذ داست القرية‪ ،‬وطيفها َيسب ُح في‬           ‫َتعودت اقتحام ُخصوصية أمثالها‪ ،‬فلم يتركوا لها‬
 ‫خيا ِل شبابها ال َمشبوب‪ ،‬لك َّن أ َح ًدا منهم لم ينل منها‬        ‫من ُحرية أن تكون كيفما َشاءت‪ ،‬قيدوها بخيو ٍط‬
‫أبع َد من َتحي ِة ال َّصباح‪َ ،‬تشفعها بابتسام ٍة َمحزونة‪،‬‬          ‫جعلهم ليروا في «زينات» فتاة ُمنفلتة َلعوب‪ ،‬لقد‬
    ‫لك َّن ُك َّل واح ٍد رآها َحظيته الوحيدة‪ ،‬فسعى لها‬            ‫جنى عليها جمالها الأخاذ الذي تخ َّطفهم من أو ِل‬
 ‫َسعيها‪ ،‬لم تكن تدري ما ُي َحا ُك في َزوايا َمجالسهم‬              ‫وهل ٍة‪ ،‬لكنها لم تكن على دراي ٍة بميزاتها تلك‪ ،‬ظنت‬
                                                                  ‫وهي الغريرة أ َّنها لا تزال تعيش في البند ِر في ِزحام‬
      ‫ومراهناتهم المنصوبة من حولها‪ ،‬كانت دائمة‬                      ‫ُتغالِ ُب ُك َّل‬  ‫بضوضا ِء‬                    ‫البيانات ال َّشاهقة‪،‬‬
‫التَّمنع‪ ،‬لا َيستميل رأسها كلامهم المعسول‪ ،‬بل َظلَّت‬              ‫أخيه‪ ،‬تناست‬         ‫فيها الأخ‬  ‫تختلط‬            ‫شي ٍء‪ ،‬تلك التي لا‬
 ‫َهكذا في ِع َنادها تص ُّد وتر ُّد‪ ،‬تردعهم إذا َل َز َم الأم ُر‪،‬‬                                 ‫يعرف‬
 ‫ف ُتثير حفيظة كثيرين راعتهم جفوتها وجرأتها غير‬                   ‫هذا كله لكنها اصطدمت َفجأ ًة ِبجدا ٍر ك َثيف ل َزج‪،‬‬
                                                                  ‫الهام ِش في‬      ‫ُخطواتها ُلتلقي بها على‬        ‫َتُعرزب َّ ٍةصدأتشباهلأبقيدا ٍتُر‬
   ‫المتوقعة‪ ،‬وفي َصبيح ٍة مم َّوه ِة ال َّسماء بلو ٍن َرائ ٍق‬      ‫أ َّن ال َحياة‬  ‫كبير‪َ ،‬تو َّهمت في نفسها‬
 ‫جميل‪ ،‬وجدوا جثتها ُمم َّزقة بجوا ِر ال َّسنطة‪َ ،‬يتد ّف ُق‬        ‫بسيطة‪َ ،‬تستو ِعب الجميع لكنَّها أدركت شيئًا وغابت‬
  ‫دمها إلى أن ارتوت منه ال َّشجرة‪ ،‬ورسالة مكتوبة‬                                      ‫عنها أشياء‪ ،‬هنا ي َفتض ُح ال ِّسر‪ ،‬لا‬
                                                                  ‫شيء َيخفى فما‬       ‫لا َتطاله باللي ِل ُينشر أمامك َتحت‬
     ‫بأحر ٍف ُمخ َتصرة بجوارها‪« :‬لقد تخلَّص ُت من‬                 ‫شمس ال ِغيطان‪،‬‬
 ‫حياتي بعد أن فقدت ُحبِّي الوحيد»‪ .‬وحتَّى اللحظة‬                  ‫ت َتعالى صيحاته تحت َضربا ِت ال ُفؤوس حين تلتهم‬
‫والقرية في شغل وحيرة‪ ،‬تتساءل من يكون حبيبها‬                       ‫الأر َض في َنه ٍم‪ ،‬استقرت «زينات» في بي ِت عمها‬
                                                                  ‫بعد َرحي ِل والدها‪ُ ،‬هناك َعاشت سنوا ٍت قضتها‬
                                  ‫ذاك المجهول؟!‬
   77   78   79   80   81   82   83   84   85   86   87