Page 60 - m
P. 60

‫العـدد ‪55‬‬   ‫‪58‬‬

                                                      ‫يوليو ‪٢٠٢3‬‬

 ‫على القول‪ ،‬وإنما هي القارئ (‪ .)..‬لقد أصبحنا نعلم‬       ‫الدراسات النقدية توجه عنايتها لهذا العنصر أكثر‬
  ‫أن الكتابة لا يمكن أن تنفتح على المستقبل إلا بقلب‬    ‫مما توجهه للمؤلف الذي أصبح دوره يتقلص شيئًا‬
‫الأسطورة التي تدعمها‪ :‬فميلاد القارئ رهين بموت‬         ‫فشيئًا؛ خاصة بعد أن ووجه بانتقادات جمة من قبل‬

                                     ‫المؤلف»(‪.)12‬‬                   ‫البنيويين وعلى رأسهم رولان بارث‪.‬‬
      ‫وعليه‪ ،‬فإن النموذج البنيوي الداعي إلى موت‬          ‫كان بارث يعلم أن أصل المشكل المبني على قراءة‬
   ‫المؤلف كان يحمل في داخله بوادر اهتمام منقطع‬          ‫وحيدة لأي نص ينبع من الإيمان بألوهية المؤلف‪.‬‬
  ‫النظير بالقارئ وبالدور الذي يلعبه في بناء معاني‬
   ‫النصوص وجعلها أكثر تعددية وانفتا ًحا‪ .‬وهكذا‪،‬‬             ‫لكن عمل أدباء ومفكرين سبقوا بارث كان له‬
     ‫فإن الثورة كانت تنبني بتؤدة من قلب البنيوية‬         ‫اليد الطولى في تحطيم هذه الصورة وإزاحتها عن‬
                                                        ‫المسرح؛ فلقد تنبه لهذه المسألة ملارميه وبروست‬
                             ‫وليس من خارجها‪.‬‬            ‫وغيرهما‪ ،‬ومنهما استمد بارث نظريته حول موت‬
  ‫إن الاهتمام بالتلقي صار أم ًرا مؤك ًدا في النظريات‬
   ‫النقدية والفلسفية‪ ،‬غير أن هذا التلقي ليس واح ًدا‬                                           ‫المؤلف‪:‬‬
  ‫ووحي ًدا‪ ،‬وإنما هو تلقيات عديدة؛ فحتى إن تحدثنا‬      ‫«عندما يبتعد المؤلف ويحتجب‪ ،‬فإن الزعم بالتنقيب‬
‫عن رجال ينتمون إلى مدرسة واحدة فإنهم يختلفون‬
  ‫في الكثير من النقاط وكذا في مركز الاهتمام‪ .‬وهذه‬          ‫عن «أسرار» النص يغدو أم ًرا غير ذي جدوى‪.‬‬
                                                             ‫ذلك أن نسبة النص إلى مؤلف معناها إيقاف‬
        ‫الإشارة أكدتها سوزان سليمان حين قالت‪:‬‬
     ‫«النقد الموجه للجمهور ليس حق ًل واح ًدا‪ ،‬وإنما‬     ‫النص وحصره وإعطاؤه مدلو ًل نهائيًّا‪ .‬إنها إغلاق‬
     ‫هو حقول عدة‪ ،‬وليس طري ًقا مفر ًدا وسال ًكا إلى‬                                        ‫الكتابة»(‪.)10‬‬
 ‫حد بعيد‪ ،‬وإنما هو تشابك وفير‪ ،‬ومسالك متشعبة‬
‫تغطي منطقة واسعة من المشهد النقدي بشكل يفزع‬               ‫ويستمر في توضيح هذه الفكرة التي جعلت من‬
                                                           ‫الكتابة والنص مرك ًزا لها‪ ،‬مهدمة سلطة المؤلف‬
       ‫تعقيده الجريء ويشوش ضعيف الهمة»(‪.)13‬‬           ‫الذي كان مصد ًرا لكل المعارف ومصد ًرا لأي تفسير‬
     ‫كان لمدرسة كونسطونس الألمانية دور بارز في‬          ‫للنص‪ ،‬بل ومصد ًرا لكل الأسرار الخفية التي يراد‬
     ‫إعطاء القارئ مكانة متميزة في منظومة العملية‬
    ‫التواصلية‪ .‬ولقد شكل الدرس الافتتاحي لهانس‬                    ‫البحث عنها داخل مجال الكتابة‪ ،‬فيقول‪:‬‬
  ‫روبيرت ياوس الأرضية التي انطلق منها مشروع‬           ‫«عندما يأبى الأدب (ربما كان من الأفضل أن نتكلم‬
‫هذه المؤسسة‪ .‬أشار ياوس هنا إلى الوضعية المتردية‬         ‫بعد الآن عن الكتابة) النظر إلى النص (وإلى العالم‬

      ‫التي صار يعيشها تاريخ الأدب‪ ،‬والذي صار‬               ‫كنص)‪ ،‬كما لو كان ينطوي على «سر»‪ ،‬أي على‬
  ‫وجوده هامشيًّا في المناهج التعليمية‪ ،‬بل لم يعد له‬   ‫معنى نهائي‪ ،‬فإنه يولد فعالية يمكن أن نصفها بأنها‬
  ‫أدنى وجود خارج المناهج التعليمية سوى عند فئة‬         ‫ضد اللاهوت‪ ،‬وأنها ثورية بالمعنى الحقيقي للكلمة‪:‬‬

    ‫قليلة تستعمله لأغراض بسيطة‪ ،‬أما في الجامعة‬           ‫ذلك أن الامتناع عن حصر المعنى وإيقافه‪ ،‬معناه‬
    ‫فلم يكن الأمر بأحسن منه خارج أسوارها‪ .‬وقد‬            ‫في النهاية رفض اللاهوت ودعائمه من عقل وعلم‬
   ‫وجه نقده لتاريخ الأدب وما كان يعيشه استنا ًدا‬
  ‫إلى جيرفينيوس الذي يرى بأن ما كتب فيه «ليس‬                                              ‫وقانون»(‪.)11‬‬
‫تاري ًخا‪ ،‬وإنما يكاد يكون مجرد هيكل عظمي لتاريخ‬              ‫ولئن كان بارث يمتدح موت المؤلف باعتباره‬
    ‫ما»(‪ .)14‬ليس هذا فحسب‪ ،‬بل إن مشكل التاريخ‬              ‫الشخص الذي يكبح تعددية المعاني‪ ،‬وباعتباره‬
  ‫الأدبي أي ًضا يكمن في كونه يتغاضى عن التغيرات‬       ‫السلطة التي تجعل فعل الكتابة فع ًل قائ ًما على السر‬
    ‫التي تحدث في كل جنس على حدة‪ ،‬وكأن مسألة‬           ‫والتفسير‪ ،‬فإنه يدعو في ذات المقال إلى بناء أسطورة‬
 ‫الثابت هي التي تهمه‪ .‬إن المسألة الإبداعية ومختلف‬      ‫جديدة والقيام بثورة حقيقية‪ ،‬هذه الثورة تتمثل في‬
‫الاختراقات التي تكون للمواضعات التي يضعها كل‬
                                                                                         ‫ميلاد القارئ‪:‬‬
                                                      ‫«النص يتألف من كتابات متعددة‪ ،‬تنحدر من ثقافات‬
                                                      ‫عديدة‪ ،‬تدخل في حوار مع بعضها البعض وتتحاكى‬

                                                          ‫وتتعارض؛ بيد أن هناك نقطة يجتمع عندها هذا‬
                                                         ‫التعدد‪ .‬وليست هذه النقطة هي المؤلف‪ ،‬كما دأبنا‬
   55   56   57   58   59   60   61   62   63   64   65