Page 64 - m
P. 64

‫العـدد ‪55‬‬   ‫‪62‬‬

                                                          ‫يوليو ‪٢٠٢3‬‬

 ‫النص‪ ،‬ذلك أن الأصل في التمثيل‪ ،‬سواء أكان ن ًّصا‬          ‫والتدبر والتمحيص»(‪ .)22‬تعد هاته القراءة‪ ،‬رغم كل‬
‫شعر ًّيا أو رواي ًة أو غير ذلك «هو القيام باقتطاع ما‬      ‫ذلك‪ ،‬مرحلة شاهدة على أن النص قد قوبل باهتمام‬
‫يصلح لبناء كون مستقل بذاته‪ ،‬يظل إدراكه وفهمه‬              ‫ينبئنا بأن فعل القراءة قد تحقق‪ ،‬وأن النص قد ُم ِّه َد‬

     ‫وتأويله مع ذلك مشرو ًطا باستحضار ذاكرته‬                 ‫له الأفق لكي يدخل زمنا آخر وهو زمن التأويل‬
     ‫الكبرى‪ ،‬أي محيطه المباشر وغير المباشر»(‪.)25‬‬          ‫الاسترجاعي‪ .‬ويمكن إجمال مواصفات هذه المرحلة‬
      ‫إن الإحالة إلى التاريخ تفترض خوض علاقة‬
   ‫مع موسوعة النص الكبرى؛ ذلك أن النص كيان‬                                      ‫من القراءة في النقط التالية‪:‬‬
‫مستقل بذاته‪ ،‬يبني عالمه وفق استراتيجيات خاصة‬              ‫‪ -‬قراءة انفعالية‪ :‬سواء بالمعنى السلبي أو الإيجابي‬
     ‫به‪ ،‬إلا أن القارئ هو من يقوم بتحيينه وجعله‬
   ‫يعاش باعتباره تجربة حياتية‪ ،‬وباعتباره محي ًل‬                                                 ‫للانفعال‪.‬‬
 ‫إلى ذاكرة استقيت من نصوص وبيئات عديدة‪ .‬إن‬                      ‫‪ -‬مقتنعة اقتنا ًعا تا ًّما بالأحكام الجاهزة التي‬
  ‫معنى ذلك أن القارئ‪ ،‬في لحظة تفاعله مع النص‪،‬‬
    ‫يقوم بإعادة بناء مختلف السياقات التي يحيل‬                                  ‫تصدرها في حق الأثر الفني‪.‬‬
 ‫إليها‪ ،‬وينتقي منها ما يناسب المسار التأويلي الذي‬          ‫‪ -‬قراءة حاسمة؛ أي أنها تعمد إلى الأثر في مجمله‬
    ‫اختاره‪« :‬إننا لا نؤول ما بداخلنا‪ ،‬ولكننا نقوم‪،‬‬
   ‫عكس ذلك‪ ،‬بوضع معرفتنا (موسوعتنا على حد‬                                             ‫وتقابله برأي جزئي‪.‬‬
     ‫تعبير إيكو) في خدمة مادة هي منطلق التأويل‬               ‫‪ -‬قراءة متناقضة‪ ،‬بحيث إن أهم سمة فيها هي‬
                                                           ‫افتقارها إلى الجهاز الصلب الذي يوجهها ويراقب‬
                                    ‫وأصله»(‪.)26‬‬               ‫ضوابطها من الداخل‪ ،‬إنها تصدر الحكم الجائر‬
     ‫يتمظهر القارئ في هذا المستوى من القراءة في‬
  ‫صور شتى‪ ،‬غير أن أكثرها تجليًا وفر ًضا للنفس‬                                 ‫والحكم ضده في آن واحد(‪.)23‬‬
‫هي «الصورة المحايدة التي تعتمد الذاكرة باعتبارها‬                               ‫ب‪ -‬القراءة الاسترجاعية‪:‬‬
    ‫أداة للذخيرة ووسيلة لرسم حدود التراث»(‪.)27‬‬
 ‫وكما اتسمت القراءتان السابقتان بعدة خصائص‪،‬‬                    ‫لكي تكون الأحكام التي أصدرناها في قراءتنا‬
  ‫فإن هاته القراءة لها خصائص‪ ،‬يمكن إجمالها في‬              ‫الأولى (القراءة الانطباعية) مسوغة تسوي ًغا علميًّا‪،‬‬
                                                          ‫لا بد من إعادة تأملها‪ ،‬وإبراز أيها تصح‪ ،‬ونفي تلك‬
                                        ‫نقطتين‪:‬‬            ‫التي بدت لنا خاطئة‪ .‬إن ذلك يتم عن طريق تقديم‬
‫‪ -‬البعد عن الانطباعية والأحكام الجاهزة المتسرعة‪،‬‬           ‫قراءة جديدة للنص وفق معايير وضوابط محددة؛‬

    ‫والتي تميز القراءة الأولى‪ ،‬والالتزام بالصرامة‬              ‫إذ يحس القارئ‪ ،‬عندما يمر من لحظة القراءة‬
     ‫العلمية والمنهجية‪ ،‬وهذا ما يجعل هذه القراءة‬           ‫الذوقية‪ ،‬بأنه لم يتمكن من القبض على الأثر الفني‬
  ‫متسقة ومنسجمة‪ ،‬بعي ًدا عن كل التناقضات التي‬             ‫في شموليته‪ ،‬وإنما ما زالت له مناطق عديدة فارغة‬
  ‫يمكن أن تقع فيها قراءة سطحية استهدفت ظاهر‬               ‫تحتاج إلى الملء‪ ،‬عندها يصير كل ما كان غام ًضا في‬

                                         ‫النص‪.‬‬                 ‫النص ذا معنى بإعادة تأمله وتقصي دلالاته‪.‬‬
   ‫‪ -‬شرط البحث عن نسق‪« :‬إن البحث عن النسق‬                 ‫إن المعنى الذي تنشده مثل هذه القراءات ليس ذلك‬
 ‫شرط أساسي من شروط حياة النص‪ ،‬إذ لا يمكن‬
 ‫لنص معين أو مجموعة نصوص أن تحيا بمفردها‬                    ‫الذي يبرز في سطح النص‪ ،‬إذ إن ذلك تم تجاوزه‬
   ‫(‪ )..‬إن النسق العام للنص هو ما يجعله ‪-‬داخل‬                   ‫في القراءة الأولى‪ ،‬بل تتغيا الغوص في أعماقه‬
  ‫القراءة التاريخية‪ -‬مدرسة أو حركة أو تيا ًرا‪ ،‬بل‬               ‫نشدا ًنا لما تأ َّبى عن اللحظة السالفة‪ .‬إن لحظة‬
  ‫إن هذا النسق هو ما يبعده عن استقلاله الخاص‪،‬‬
                                                             ‫القراءة الاسترجاعية هي لحظة حاسمة في صنع‬
                ‫ليجعل منه أث ًرا إنسان ًّيا خال ًدا»(‪)28‬‬   ‫المعنى وبلورته في ذهن القارئ‪« .‬إن مقياس نجاح‬
                                                           ‫النص الأدبي ليس فيما يحتويه من ظواهر جمالية‬

                                                               ‫بقدر ما يكمن نجاحه في مدى حثه القارئ على‬
                                                                           ‫التأويل واستخلاص المعنى»(‪.)24‬‬
                                                                                   ‫ج‪ -‬القراءة التاريخية‪:‬‬

                                                              ‫ثالث أزمنة التلقي ما سمي بالقراءة التاريخية‪،‬‬
                                                                ‫وفيها ينفتح التأويل على التاريخ وعلى ذاكرة‬
   59   60   61   62   63   64   65   66   67   68   69