Page 83 - m
P. 83

‫‪81‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫الشعر في اليمن‬

                                                   ‫عادل عصمت‬

                                                       ‫الآخر‬

 ‫يحكي صلاح قصة سقوطه في الترعة على قهوتي‬              ‫انتهى العرس في الواحدة والنصف بعد منتصف‬
 ‫في ميدان الساعة‪ ،‬وجسده كله مربط ويلمع العرق‬           ‫الليل‪ .‬لمت الفرقة المعدات‪ ،‬وقف “صلاح” جانب‬
                                                      ‫الخيمة‪ ،‬نظارته التصق بها التراب بسبب رطوبة‬
      ‫على جبهته وهو يشرب حجر المعسل‪ ،‬وأحمد‬            ‫الجو‪ .‬يكره بلاد الفلاحين‪ .‬في كل مرة يكون مع‬
  ‫مصطفى زميله في الإدارة التعليمية‪ ،‬يضحك مما‬          ‫الفرقة في عرس في بلد أرياف يظل متكد ًرا‪ .‬شعر‬
   ‫حدث له‪ .‬ينتبه صلاح ويقول بجدية‪“ :‬لا أعرف‬          ‫بالجو مكتوم‪ ،‬وعرف أن الميكروباص الذي يحمل‬
                                                       ‫الفرقة‪ ،‬عمل حادثة ولن يأتي‪ ،‬وكل فرد سوف‬
     ‫ل َم ل ْم أمت وأنتهي‪ .‬كانت فرصة‪ ،‬خسارة أنها‬
   ‫ضاعت”‪ .‬ويطوح رأسه حزينًا بأن فرصة موت‬                                     ‫يعود وحده إلى المدينة‪.‬‬
 ‫سهلة قد فاتت ولا يعرف متى سيسقط في الترعة‬         ‫ترك الآلات وسار مسافة قصيرة‪ .‬ركب ميكروباص‬
    ‫مرة أخرى‪ ،‬أو يتعرض لحادثة سيارة مسرعة‪،‬‬
                                                         ‫حتى بركة السبع ومن هناك سوف يأخذ أي‬
                                         ‫يقول‪:‬‬         ‫مواصلة حتى لو كان القطر‪ .‬امتدت أمام بصره‬
 ‫“لا أريد الموت بالأمراض يكفي ما أراه في التأمين‬
                                                           ‫الكليل الترعة الكبيرة التي عليه أن يعبرها‪،‬‬
                                     ‫الصحي”‪.‬‬         ‫أوسع من ترعة القاصد في طنطا‪ ،‬يشعر بالإنهاك‬
          ‫يحكي “صلاح” أنه حدق في عين الموت‪.‬‬        ‫والرطوبة تزيد من إحساسه المرير بالخيانة‪ .‬يشعر‬
 ‫عين الموت مظلمة مريحة لكنها مخيفة‪ ،‬تحديقه في‬      ‫بكدر كثيف مثل رطوبة اليوم‪ .‬كدر يغلف كل شيء‪،‬‬
  ‫عين الموت لا يساوي عذابه في طرقات مستشفى‬
 ‫التأمين الصحي‪ .‬العذاب بجد هناك؛ عدم الاهتمام‬                         ‫وكأن الحياة قد أغلقت أبوابها‪.‬‬
     ‫بألمه‪ ،‬لو ذاق أي واحد منهم ألم خلع الكتف ما‬      ‫الكوبري يمتد هناك‪ ،‬يتم فتح الكوبري في ساعة‬
    ‫كان قد تصرف على هذا النحو‪ .‬يتم التعامل مع‬       ‫من ساعات الليل لكي تعبر المراكب‪ ،‬لم يكن صلاح‬
   ‫المريض على أنه نصاب وي َّدعي المرض‪ ،‬لذا يجب‬     ‫يعرف أن الكوبري مفتوح‪ .‬الدنيا ظلام وهو يمشي‬
 ‫عدم الاهتمام به واحتقاره ويصل الأمر أحيا ًنا إلى‬      ‫غار ًقا في أفكاره غير مصدق أن كل أحلامه بأن‬
  ‫إذلاله‪ .‬يتم التعامل معه على أنه لا يستحق العلاج‬    ‫يعبر إلى البر الثاني ويعيش في بلجيكا قد فشلت‪.‬‬
  ‫ولا الاهتمام؛ إنه لا شيء‪ ،‬غير وجع دماغ‪ .‬وبعد‬     ‫إسماعيل قالها صراحة‪ ،‬لن يتمكن من إرسال دعوة‬
  ‫ذلك يضطر أن يلف على المكاتب ويتعرض لمماطلة‬       ‫له‪ ،‬البوليس يطارده فكيف يتمكن من إرسال دعوة؟‬
   ‫لإعطائه الإجازة المرضية‪ ،‬لا بد أن يذهب لهم في‬   ‫يعدل النظارة ويسير ويمشي فوق الكوبري‪ ،‬غارقا‬
 ‫العيادة الخاصة ليتمكن من الحصول على الإجازة‬
‫المرضية‪ ،‬لذلك كان يتمنى أن يهرب من هذا الجحيم‬            ‫في أفكاره‪ ،‬وفي لحظة خاطفة‪ ،‬وهو ينقل قدمه‬
                                                        ‫اليسرى‪ ،‬شعر بأنه يخطو في الفراغ‪ .‬فاستدار‬
                             ‫ويسافر إلى بلجيكا‪.‬‬          ‫ليمسك بالحاجز الحديدي‪ .‬التوت قدمه تحته‪،‬‬
                    ‫***‬                                ‫ووجد نفسه معل ًقا في الحاجز‪ .‬لم يستطع البقاء‬
    ‫يقول “صلاح” لزميله إنها لحظة حلم‪ ،‬منذ أن‬
 ‫أدرك الفراغ تحت قدمه تلاشى العالم الذي يعرفه‬              ‫معل ًقا عدة لحظات أفلت يده وسقط في الماء‪.‬‬
                                                                       ‫***‬
   78   79   80   81   82   83   84   85   86   87   88