Page 84 - m
P. 84

‫العـدد ‪56‬‬  ‫‪82‬‬

‫أغسطس ‪٢٠٢3‬‬

‫وانتقل إلى عالم آخر‪ .‬لحظة حلم فع ًل؛ فالعقل الذي‬
  ‫يهيل على قلبه الهموم والنقمة على أخيه إسماعيل‬
 ‫والأعراس وبلاد الفلاحين ورطوبة الجو وكشوف‬
   ‫الحسابات في الإدارة التعليمية‪ ،‬كل ذلك تلاشى‪.‬‬
   ‫العقل الظاهر غاب وصعد مكانه من الداخل عقل‬
  ‫آخر‪ ،‬هادئ مغمور بالظلمة راح يدير الدفة بكامل‬
     ‫الثقة‪ .‬ذلك العقل الذي لا يهتم بالإجراءات ولا‬

‫يعرف طرقات التأمين الصحي ولا خيانة إسماعيل‬
  ‫ولا خيبة الأمل من أنه لم يتمكن من عبور البحر‪،‬‬
     ‫جاء من بعيد وأمسك الدفة؛ مهمته هي صيانة‬
   ‫الحياة‪ ،‬لحظة كثيفة من العمق أول مرة يجربها‪.‬‬
 ‫أطل على تلك الهوة العميقة التي نعيش فوقها ندبر‬
 ‫الحياة ونجري ونكتئب ونفرح وندبر الحياة‪ ،‬هذه‬

‫قشرة هشة‪ ،‬أما الحياة الكثيفة فهي هناك في ظلمات‬
 ‫النفس‪ ،‬منها صعد ذلك الذي راح يدير الموقف‪ ،‬إنه‬

    ‫نفس العقل الذي لا نفهمه ويملي علينا أحلامنا‪.‬‬
      ‫وصلت قدماه قاع الترعة‪ ،‬وعرف أن النظارة‬

   ‫انكسرت أثناء سقوطه وانتهى الأمر‪ .‬صعد مرة‬
   ‫أخرى إلى سطح الماء‪ ،‬يتذكر صلاح اللحظة التي‬
 ‫أدرك فيها أن الماء يغطي رأسه وقال لنفسه عندما‬
  ‫صعد رأسه فوق سطح الماء‪ ،‬إنها المرة الثانية‪ ،‬إذا‬
   ‫هبط مرة أخرى فلن يصعد أب ًدا‪ .‬الفكرة واضحة‬
 ‫بعثت في كيانه فكرة أنه يمكنه أن يسبح‪ ،‬فقد تعلم‬
 ‫السباحة في بحر مطروح منذ الصغر‪ .‬رغم الذراع‬
    ‫المخلوع راح يسبح‪ ،‬الدنيا ظلام ونظره ضعيف‬
  ‫وهناك تيار ماء يأتي ليجرفه من جهة لا يستطيع‬
    ‫تحديد معالمها‪ ،‬نظره الكليل كان الآن هو النقطة‬

     ‫التي يمكن للموت أن ينفذ منها‪ .‬قرر أن يسبح‬
    ‫مع الماء‪ .‬رأى هناك عمو ًدا من الأسمنت راس ًخا‬
    ‫وداكن اللون في الظلام‪ ،‬قرر أن يسبح باتجاهه‬
   ‫ويتشبث به‪ .‬الجزمة ثقيلة ج ًّدا والألام كالنار في‬
   ‫كتفه وركبته‪ ،‬لكن جسده يتحرك وحده لا يأخذ‬
‫الأوامر منه‪ ،‬يأخذها من منطقة مجهولة وهو يطيع‬

                                      ‫ويمضى‪.‬‬
 ‫وصل إلى العمود‪ ،‬تعلق به‪ ،‬ووقف ليستريح‪ ،‬سمع‬
  ‫أصوات الفرقة‪ ،‬كانوا قد وصلوا‪ ،‬لا بد أن أحدهم‬
 ‫رآه وهو يسقط‪ ،‬ومن فوق الكوبري راحوا ينادون‬

     ‫عليه‪ .‬بعد قليل اضطربت أصواتهم‪ .‬تمكن من‬
   ‫العودة من الحلم ورد عليهم‪ .‬قال لهم إنه بجوار‬
‫العمود الأسمنتي‪ ،‬نزل أحدهم وسبح باتجاهه‪ .‬كان‬
  ‫يظن أن صلاح يغرق لأنه لا يعرف العوم‪ .‬أخبره‬
   79   80   81   82   83   84   85   86   87   88   89