Page 91 - m
P. 91
89 إبداع ومبدعون
القصة في اليمن
«توفيق» لا يرى الصباح دون «محمد جبنون» ،فإذا أكثر من خمسين سنة تفصل بيني وبين «محمد
ما قال له «أنا متعب ولا أستطيع الوصول أرسل جبنون» ومع ذلك نشأت بيننا ألفة غريبة وصداقة
من يجلبه» ،وإن تأ ّخر ذهب للسؤال عنه ،وإن
مرض ترك دكانه ليجلس إليه وليمازحه بالس ِّب كبيرة ،عاش شبابه في تونس العاصمة فعاد إلى
والخصام. القرية يحمل فك ًرا متحر ًرا ..صديقي محمد جبنون
أ َّم الناس وكان يكره المبالغة في الحديث عن الدين،
*** ببساطته أدرك أ َّن للدين موض ًعا وللدنيا مواضع،
لكن لو فعلتها و م ُّت كمحمد جبنون يوم أحد من فلا غرابة أن تراه يمازح الصغار ويتحدث إليهم
سيروي لكم حكايته؟ من سيتحدث عن رجل لا بلغتهم وهو الذي ما نزع الجبة يو ًما ،يحلو له أن
يملك مقومات البطولة؟ رجل من عامة الناس صلى يجلس أمام دكان توفيق بائع الخضار وأن ينطلق
بهم ولم يؤمن بهم رغم أنه لا يعرف «محمود في السخرية من بضاعته ،وكثي ًرا ما يرفع في نسق
المسعدي»(.)3 السخرية كلما دخل مشتر ،هو لا يو ِّجه خطابه
بصراحة عهدته صاد ًقا ووفيًّا ..توقعت من «محمد مباشرة للبائع أو للحريف بل يقول:
جبنون» كل شيء إلا أن يخون الماء والملح (تعجبني
العبارة لأ َّن ماء مدينة قابس( )4ملح) ،ويفعلها يوم -اليوم مررت بدكان «بو ذراع» (بائع خضار
منافس لتوفيق) بصراحة خضر وغلال «فرشكة»()2
أحد ..اختار أن يموت يوم أحد ليوفر على الناس
تعب الخروج من أماكن عملهم .كعادته ينسحب وأسعار في المتناول ،رجل ثقة ويحترم زبائنه».
بصمت ويركب دراجته الهوائية بلامبالاة دون أن ما إن ينهي جملته الساخرة حتَّى ينطلق «توفيق»
يزعج أح ًدا ..أنجب كثي ًرا من الأبناء «عمي محمد». في سبِّه وطرده في معركة أتابع تفاصيلها بمرح،
اعتقد كغيره أنه سيحارب الموت بهم ،لكن يوم
معركة ظرفيَّة تكسر الملل والروتين ..لأن
الأحد س َّفه أحلامه.
أنا الآن أتصوره يتحدث بهدوء مع قابض روحه..
تع َّود أن ينطلق في الحديث مؤ َّد ًبا لا يبادر بالإساءة،
أظ ُّنه (وظنِّي يقين) أ َّنه لم يرتبك الارتباك الذي
سأعيشه (أعرف حقيقتي وحقيقة خوفي وجزعي
فلا تتو َّقفوا عند هذه الجملة وم ُّروا عليها مرور
الكرام) ..لا أقول إ َّنه لم يرتبك فما أظ ُّن الموقف
يسمح ببرودة الدم التي ُع ِر َف بها ،لكني من خلال
ما عرفته لن يرفض ولن يتل َّكأ ،سيذهب معه أو
معهم إلى حيث يأخذه أو يأخذونه بهدوء ودون
ممانعة ،أتصور أ َّنه قد طلب منه أو منهم كلمة
وداع لزوجته وما أظنه وجد تجاو ًبا .هكذا إذا جاء
أو جاؤوا توقف الكلام وماتت الرغبات التي تبقى
مرسومة على الشفاه عند تغسيل الميِّت (وصيَّتي
من الآن :لا أريد لمن رآني مس َّجى أن يقول كان
يبتسم ..لم أضحك ولا أعتقد أن المقام مقام
ضحك).
إيه يا سي «محمد جبنون»! آلاف يموتون يوميًّا ولا