Page 86 - merit 42 jun 2022
P. 86

‫العـدد ‪42‬‬                            ‫‪84‬‬

                                                                 ‫يونيو ‪٢٠٢2‬‬

‫عبد الباسط قندوزي‬
‫(تونس)‬

‫الخبز المر‬

                         ‫يحادثها بصوت خافت‪:‬‬          ‫تسلل في جوف الليل يمشي بخفة دون أن يصدر‬
‫‪ -‬احمليها إلى المطبخ‪ ،‬وأحرصي على تنظيفها لتكون‬         ‫صو ًتا‪ ..‬لقد شاهد في الصباح ابن تاجر القماش‬

      ‫صالحة لوجبة الغد‪ ،‬وإن قدرت فقسميها على‬        ‫يحمل أكيا ًسا من القمامة‪ ،‬يسارع خطاه في الهزيع‬
                                       ‫وجبتين‪.‬‬       ‫الأخير ليصل قبل زبال الحي‪ ..‬يريد أن يأخذ تلك‬
                                                    ‫الأكياس قبل أن يجمعها ويرميها خار ًجا في مجمع‬
 ‫تحدثه وعلامات فرح تزرع على وجنتيها ووجهها‬
                                      ‫الصبوح‪:‬‬           ‫القمامة‪ ..‬أحس بأن طريقه تطول وكأنه يصعد‬
                                                       ‫تلة‪ ،‬فهو المرهق من يوم عمل عصيب يحمل فيه‬
    ‫‪ -‬ألا نرى ما يحمله ذلك الكيس؟ يبدو منتف ًخا‪.‬‬     ‫أثقال التجار مقابل دراهم زهيدة‪ ..‬يقف قريبًا من‬
                            ‫يضحك ويهم بفتحه‪:‬‬        ‫الحاوية ينتظر خلو الزقاق من دبيب إنسي‪ ،‬يرقب‬
                                                   ‫حركات الليل التي أوهمته أن في تخوم الحي أجسام‬
                  ‫‪ -‬إنها ملابس وبعض الأحذية‪.‬‬         ‫تتراقص تقترب ثم تبتعد‪ ،‬فينصرف ثم يعود عند‬
                                ‫‪ -‬لا تبدو بالية‪.‬‬
                                                          ‫كل سراب تحدثه العين المبصرة باضطراب‪.‬‬
      ‫‪ -‬ملابس الأثرياء لا تفسد‪ ..‬نحن من يفسد‪.‬‬             ‫يتغلب على توتره فهو لا يريد أن يربط زمن‬
     ‫‪ -‬انظر هذه الأحذية‪ ،‬قليل من الخياطة تصبح‬           ‫خروجه بالفجر فقد صار ميقاته قريبًا وحينها‬
                                                    ‫تفر منه الغنيمة‪ ..‬يمشي ببطء شديد وهو يكثر من‬
                                        ‫أفضل‪.‬‬         ‫النظر إلى الخلف ثم إلى جانبيه مثل لص يترصد‬
                     ‫‪ -‬هذا عملك فافعلي من الغد‪.‬‬        ‫مغن ًما‪ ..‬يقترب من تلك الأكياس الكبيرة فينقض‬
  ‫يكمل الزوج ترتيب الأكياس وإفراغ ما في جوفها‬       ‫عليها ويرجع أدراجه سال ًكا غير زقاق مخافة عابر‬
            ‫فيغنم بطعام وملبس‪ ..‬محد ًثا زوجته‪:‬‬         ‫سبيل يقاطعه طريقه فيتعرف عليه‪ ،‬ويسأل عن‬
                                                    ‫حكاية خروجه لي ًل ويتقصى الأكياس وما تحمله‪..‬‬
                        ‫‪ -‬هذه المرة الرزق أوفر‪.‬‬    ‫ويزيد في قلقه حين يخطر بباله أن يكون أحد المارة‬
                               ‫‪ -‬هل لمحك أحد؟‬       ‫ابن تاجر القماش أو التاجر بشحمه الوفير ورأسه‬

                ‫‪ -‬حرصت على التخفي‪ ..‬لا أعتقد‪.‬‬                   ‫الكبير ووجهه المنتفخ من شدة نهمه‪.‬‬
        ‫ينتهي الزوجين من عملهما ويخلدا للنوم‪..‬‬       ‫يسير ويسارع خطاه حتى يدنو من داره‪ ،‬فينزلق‬
‫هي غفوة قصيرة تذهب سقم الروح يستفيق إثرها‬           ‫بخفة نحوها‪ ،‬ويقفل بابه الخارجي‪ ،‬ثم يتوجه نحو‬
  ‫الح َّمال قاص ًدا عمله اليومي‪ ..‬يتناول رغيف خبز‬  ‫صحن الدار ليجد زوجته قلقة من مصاب قد يطرأ‪،‬‬
       ‫يابس فيغمس نصفه في الماء ليسهل قضمه‪.‬‬
 ‫تنهض الزوجة قبله لترقيع تلك الملابس والأحذية‪،‬‬         ‫أو شبهة قد تلحق بوليفها فتحزن بعده وتشقى‬
‫ترقب زوجها وهو يقبل أبناءه الأربعة ثم ينصرف‪.‬‬                                                 ‫أكثر‪.‬‬
  ‫يبدو الطقس شديد البرودة‪ ،‬ريح عاتية ممزوجة‬
‫بزخات مطر‪ ،‬إنها تضرب وجه الح َّمال المنهك فتزيد‬      ‫يهم إليها في عجل‪ ..‬يفتحا سو ًّيا الأكياس‪ ،‬ويفرغا‬
    ‫من إعياء النفس‪ ..‬يعبر طريقه إلى متاجر الحي‬           ‫ما في أغوارها من بقايا أكل وخضر وفاكهة‪..‬‬
‫وهو يلبس ما يشبه الثياب ويضع على قدميه لفيفة‬
   ‫قماش لتستر أسفل قدميه‪ ،‬فالحذاء الذي يلبسه‬
   81   82   83   84   85   86   87   88   89   90   91