Page 81 - merit 42 jun 2022
P. 81

‫‪79‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

 ‫جد ًدا‪ .‬استعاد واقعيته السليبة‪ ،‬وهو يستقل حافلة‬       ‫الشاغر المجاور له‪ ،‬بينما هو يحدق في نافذة تشهر‬
 ‫في طريقها إلى مرابع الصبا‪ .‬لم يقاوم رغبة مفاجئة‬       ‫خواءها الخلفي‪ ،‬وتفضح شروخ القلب‪ .‬كان الجار‬
‫لرؤية الحي القديم‪ ،‬حيث كان يرفع عينيه إلى نوافذ‬         ‫يتحدث مع شخص ما‪ ،‬عبر الهاتف المحمول‪ .‬أيقن‬
‫بيت الجيران‪ ،‬التي كان يحرسها مع أقرانه في ليالي‬         ‫أنها سمسرة سيارة من تفاصيل المكالمة؛ كثيرون‬
‫الصيف‪ ،‬وهو لا يعرف لماذا ورطه قلبه ‪-‬مبك ًرا‪ -‬في‬       ‫يلجأون اليه‪ ،‬يسألونه إن كانت هناك شقة للإيجار‪،‬‬
‫قصص حب نساء بعيدات عنه‪ ،‬بعيدات ‪-‬أي ًضا‪ -‬عن‬            ‫يعتذر لهم في لطف‪ ،‬يشتمهم في سره‪ ،‬لأنهم أهانوه‬
 ‫العين واليد‪ ،‬كأنما كلف بحراسة سعادة الأخريات‪،‬‬          ‫بهذا السؤال‪ ،‬يصفهم بأنهم «أبناء بوتين»‪ ،‬ويلعن‬
‫خيل إليه أنه ما زال يربض على تلة الرمل الصغيرة‪،‬‬
 ‫منذ ذلك الأحد البعيد‪ ،‬البعيد ج ًّدا‪ ،‬حين كلفه والده‬                     ‫كل المتكالبين على حطام الدنيا‪.‬‬
‫‪-‬وهو يضع خطواته الأولى على عتبة الرجولة‪ -‬بأن‬             ‫عند الظهيرة‪ ،‬غادر المقهى‪ ،‬أغلق محله‪ ،‬اختار أن‬
  ‫يحرس ورش البناء في غياب الحارس‪ ،‬الذي ذهب‬             ‫يضحي بساعة الغداء‪ ،‬وهو لا يعرف كيف يتخلص‬
‫إلى بيته في يوم عطلة أسبوعية‪ .‬الآن فقط‪ ،‬يدرك أن‬           ‫من هذا الحزن القاتل‪ ،‬الذي استبد به‪ ،‬تمنى لو‬
‫العاشق الأفلاطوني ناب عن الحارس في مهمته‪ ،‬من‬             ‫كانت لديه الشجاعة الكافية‪ ،‬لكي يطرق باب تلك‬
                                                       ‫العمارة‪ ،‬يقف أمام باب الشقة‪ ،‬وبطريقة سينمائية‪،‬‬
                       ‫أجل تلك الغريزة الحقيرة‪.‬‬        ‫يخرج شفرة حلاقة مخبأة ‪-‬بعناية‪ -‬في فمه‪ ،‬وبعد‬
 ‫كان الطفل حزينًا‪ ،‬حزينًا ج ًّدا‪ ،‬يتلوى فوق الرمال‪،‬‬   ‫أن يتلو بعض تراتيل لوعته‪ ،‬ينهي فصل هذا العذاب‬
                                                           ‫السخيف‪ ،‬ببتر شرايين المعصم‪ ،‬سيكون هناك‬
    ‫يتقلب دون أن يجد تفسي ًرا لهذا الألم الغامض‪،‬‬      ‫سبب وجيه لألم طارئ‪ ،‬سيموت دون أن يرى ندبة‬
 ‫الذي ينهش دواخله‪ .‬في ذلك الأحد‪ ،‬عادت أمينة إلى‬            ‫ذقنها‪ ،‬ندبة قديمة جعلته يحب قسمات وجهها‬
 ‫ديار الغربة‪ ،‬بعد نهاية العطلة الصيفية‪ ،‬حيث تبقى‬       ‫أكثر‪ ،‬رآها عن قرب مرة واحدة‪ ،‬أمام متجر البقال‬
‫النوافذ موصدة طوال العام‪ ،‬بيد أن سعادته تبخرت‬             ‫السمسار‪ ،‬فأخذ ينظر إليها نظرات عبادة‪ ،‬وهي‬
 ‫بسرعة‪ ،‬ذات خفقة‪ ،‬عند رؤية النافذة‪ ،‬التي اعتادت‬       ‫تدفع عربة أطفال تستكين فيها صغيرتها‪ ،‬في تأفف‪.‬‬

   ‫أن تطل منها فتاته‪ ،‬تشهر ملامح عمها البغيضة‪،‬‬                                     ‫أستحي أن أقول ل ِك‬
      ‫الذي جاء لكي يجدد هواء البيت‪ ،‬بعد شهور‪.‬‬                                         ‫إ َّن عرب ًة مسرعة‬
       ‫كان يقضي ليالي الصيف مع ثلة من رفاقه‪،‬‬
       ‫يجلسون على رصيف يواجه البيت‪ ،‬يراقبون‬                                   ‫د َهس ْتني في الطريق إليك‬
                                                                                      ‫وإ َّن امرأ ًة عابرة‬
    ‫الأخوات المراهقات الثلاث‪ ،‬ويكتفون بهذا الحب‬
  ‫الجماعي الصامت؛ حب أقصى متعه تبادل إشارة‬                                   ‫وضع ْت أذنها على صدري‬
                                                                                        ‫من جه ِة القلب‬
    ‫باليد أو ضحكة أنثوية خافتة‪ ،‬تسرقها حماقات‬
‫عشاق صغار‪ ،‬يرتكبونها للظفر بإعحابهن‪ .‬لم يخبر‬                                  ‫وي َدها على النب ِض الواهن‬
                                                                                            ‫في ذراعي‬
  ‫أصدقاءه أن قلبه تعلق بالبنت الوسطى‪ ،‬ولم يكن‬
         ‫يدري أن هذا القلب خلق لكي يتلذذ بالألم‪.‬‬                              ‫وانتظر ْت خفو َت أنفاسي‬
                                                                                   ‫وهي تف ِّكر بالذرائع‬
    ‫في الحافلة المتجهة إلى قلب المدينة العتيقة‪ ،‬كانت‬
     ‫المرأة الأربعينية الجالسة أمامه‪ ،‬تحدث جارتها‬                               ‫التي عل َيّ أ ْن أسو َقها لك‬
      ‫بنبرات سخط تفضحه ملامحها الذابلة‪ ،‬وهي‬                                    ‫حين أعود إلى الحياة(‪.)3‬‬
   ‫تشتكي من زوجها المتبطل‪ ،‬الذي يقضي سحابة‬              ‫وضع سماعتي الهاتف المحمول في أذنيه‪ ،‬فانهمر‬
‫يومه في المقهى‪ ،‬ويلقي كل مسؤليات البيت والأولاد‬        ‫شلال موسيقى «تجلد الدموع»‪ ،‬تساءل بينه وبين‬
                                                          ‫نفسه‪« :‬أيهما الأقسى‪ ..‬غيابك أم هذا النواح؟!»‪.‬‬
                                     ‫على عاتقها‪.‬‬            ‫نسي حلمه الموغل في رومانسيته هناك‪ ،‬خلف‬
                  ‫‪ -‬ألا يلومه أي أحد من العائلة؟‬      ‫شارع هجرته الحياة‪ ،‬ترك رفاته المضمخ بدم شهيد‬
    ‫‪ -‬يقولون لي‪ :‬تحملي نتيجة اختيارك‪ ،‬لم يجبرك‬            ‫الحب‪ ،‬عند باب شقة واقعية ج ًّدا‪ ،‬تنتظر سكا ًنا‬
 ‫أي أحد على الزواج من رجل أصغر منك سنًّا‪ ،‬كما‬
   76   77   78   79   80   81   82   83   84   85   86