Page 79 - merit 42 jun 2022
P. 79
77 إبداع ومبدعون
قصــة
ترسل ُمشيعيها إلى مثواهم الأخير ،ثم تستقر هي دون أ ْن تبتل عيونهم لامرأة ناهزت الأربعي َن رج ًل
في حفرة الانتظار ريثما تستيقظ وهي في العال َم وهي تأ ُّن لمقتل ردفيها.
إ َّن نو ًحا لم يكن ليسمح للبلاغة الصدئة بأ ْن تسي َل
ِالآخر؛ فقد كانت تنغمس في تناول البازلاء ،وهي من أفواه أهل القرية ،بل لم يكن يستطيع تصديق
ترمي إليه بغمز ٍة من عينها اليمنى؛ أي :لن تفهم. تلك الفتاة التي قالت له يو ًما ما :إ َّن القيم َة تكم ُن
قراءة خشب ٌّي فار ٌس لا يمكنه وهو بين نهديها ،وإنه
ومهما يكن من أمر ،فإ َّن فار ًسا خشبيًّا مثل نوح لم ليل ٍة واحد ٍة. كل هذه ال ُّث ِد ِّي في
يكن لتستفزه خيالاتها تلك ،إلا بالقدر الذي يسمح
ظل نوح ُ -م ْذ قال ْت له ما قال ْت -واق ًعا تحت عنف
له بأ ْن يكون في عيون أهل القرية بط ًل يتحدث التفاسير التي يحاول بها تذوق الاحتمالات الممكنة
ُلغ ًة وبلاغ ًة قديمتي ِن ،و ُم َت َحد ًيا قانونهم الوحيد في كلها لفار ٍس خشب ٍّي ذي حصا ٍن خشب ٍّي أي ًضا ،غير
الحيا ِة .وكان -وهو في سني عمره الأولى -يدرك أنه لم يعد كما كان من قب ُل ،وع َل الرغم من أ َّن
أ َّن ثمة قد ًرا محتو ًما ومصي ًرا مختل ًفا لو أنه آمن قاب َل الأيا ِم كان متوق ًعا ،سوى أنه كان غير را ٍض
بلُغت ِه ،ودافع عن إيمانه بنفسه ،وعن كونه فار ًسا عن كل ذلك الصمت بين أبناء قريته ،هؤلاء الذين
باعوا مقدرتهم ع َل التحدث إلى فرسا َن خشبيي َن
خشبيًّا ذا حصا ٍن خشب ٍّي أي ًضا ،وفي النهاية مثله.
غادر القرية ،ثم عاد م َّر ًة أخرى مداف ًعا عن اللُّغ ِة
الحقيقي ِة ،وعاد ينتظر أه َل القرية -والفتاة ذات راح يقرأ من الورق عن قصة فتاة استطاعت دون
الوجنتي ِن الحمراوي ِن بالطبع -في البستان الواسع َك ٍّد أو تع ٍب أ ْن تتحد َث إلى أهالي قريتها ،لا لشي ٍء
سوى لأنها قد أتقن ِت البلاغ َة القديم َة عن زوجها
الذي يمتد إلى ما وراء القرية؛ كي يخط َب فيهم عن الذي ُقتِ َل في خريف أحد الأعوام ،وهو يدافع عن
الأبجدية الأ ِّم ،وعن ذلك التاريخ القديم للبلاغة وهي بكارة ُلغت ِه الكسول.
تمارس دورها مع الملوك الأقدمي َن ،والسياسيي َن، تلك الفتاة هي نفسها التي أحبها نوح قبل أ ْن
وشيو ِخ المجال ِس النيابي ِة ،وكيف كان ْت تساعد أهل تفارقه بسبب إيمانه بحكايات الفرسا ِن الخشبيي َن،
القرى -التي بارك الر ُّب فيها -ع َل بناء الميازيب، وفي النهاية غاب ْت عنه ثلاث ليا ٍل سو ًّيا ،ثم عاد ْت
وهي عازم ٌة ع َل أ ْن تتزو َج من أحد رجال المدين ِة
والدور ،والبنايات التي ُت َد ِّف ُئ موظفيها. الذين يتحدثون اللُّغ َة ،غير أنه كان عني ًفا ،وقد مات
وفي الأخير ،اتفقوا ع َل استخدام ُلغتهم القديمة وهو مؤم ٌن بك ِّل تلك الترهات عن البورصة ،وعن
عند حديثهم عن خردوا ِت الأشيا ِء ،أو إذا ما حكى القصيدة الحداثية.
أح ُدهم عن شي ٍء ،مثل :المِغرا ِة ،والطناجر ،والآنية، والآن ،عاد ِت الفتا ُة ذات الوجنتي ِن الحمراوي ِن ،وكان
والبراميل ،والأجانات؛ أو في الحديث الذي كان لا يزال ذلك الأل ُق باد ًيا ع َل ملامحهاَ ،ف ِس ْح َن ُتها لم
كثي ًرا ما يدور بين الحموات وال ِكنَّا ِت عن عيدان تتبد ْل كثي ًرا ،كان ْت كما هي؛ فلا تزال -ع َل الأقل
الذرة ،وعن النخيل الذي ينبت من الثَّرى ،وهو هذا ما اعتقد ُته أنا -ترهق نفسها بالتفاصي ِل ،إذ
يفزع إذا ما م َّر ِت الريا ُح من أمام المنز ِل .وأ َّما كانت ُت َب ْصبِ ُص مثل َجر ٍو ،رأى صاحبه بعد غيا ٍب
بالنسبة إلى اللُّ َغ ِة الخشبي ِة ،فسوف يستعملونها في طوي ٍل ،إذا ما شاهد ْت َجناز ًة تعبر الطري َق الرئيس َة
المؤدي َة إلى المقبر ِة في شرق القري ِة الخرسا ِء ،وكان
الحديث عن إعادة تنصيب أمناء المحافل الانتخابية،
وعن توزيع المال ع َل َلها َف القرية من الرجال كله الغاخب ْتشب ُّعينهلااليلُّفغهُةمالخسبشَببي ُذةلتكل اكل.اهولتمامالمم فار ُسنا
تكن بجثمان
والنساء ،الذين يتلهفون إلى قر ٍش يكنزونه؛ وكذلك حينها تجد كلما ٍت -خاصة وأ َّن أه َل القري ِة قد
في الحدي ِث عن الساسة الظرفا ِء .وهنالك مال عادية من المعجمات -تعبر ل َهج َّربمهاوا اعلنتح ِدس ِّرثفبركلحمتاهات
إذا ما شاهدت َجنازات
نو ٌح إلى الفتا ِة الخشبي ِة مثله ،وعبرا جمو َع أهالى
القرية المحشودين في الحديقة الوسيعة ،ملوِّحي ِن
لهم بأيديهما ،باعتبارها لحظ َة انتصا ٍر مؤقت ٍة للُّغ ِة
القديم ِة ع َل اللُّغ ِة الخشبي ِة.