Page 78 - merit 42 jun 2022
P. 78
العـدد 42 76
يونيو ٢٠٢2
محمد جلال الأزهري
الُّلغ ُة الخشب َّي ُة
وهكذا كان نو ٌح يفهم اللي َل ومتى كانت تبتل عتم ُته لم يكن يصدق أ َّن ما حدث كان متوق ًعا ،وأ َّن
بدموع ال َّزاعقي َن بالدعا ِء تحت السماء بأصوا ٍت اللحظات الأخيرة يمكن –بقليل من ال َح ْد ِس– أ ْن
مكتوم ٍة ،ففي أيامه الأولى -في َف ْور ِة شبابه ،و َي َفا َع ِة تمنحه إشار ًة إلى النهاية.
سنِّ ِهَ -ما َد بروحه إلى شبابيك المدينة ،وغادر القرية كان نو ٌح مثل ك ِّل الذين باعوا الوق َت في أول العمر،
ع َل َع َج ٍل ،تار ًكا بئرها الحزينة تنضح بالقتلى الذين واق ًفا ع َل حافة المعنى ،وضائ ًعا بين ُت َّر َها ِت بائعي
اللُّغ ِة؛ فلقد استطاع أ ْن يعي َش أيامه الأولى وهو َسا ٍه
ماتوا لأجل جرعة من الضوء؛ إذ ألقى خلفه خي َط
الصبح وهو ينسل من بكرة الفجر ،عاز ًما ع َل ألا ع َّما يمكن أ ْن يقو َله في المستقبل.
نوح ذو الشاربي ِن الطويلي ِن ،والحاجبي ِن الكثيفي ِن،
يعود. وب ُعو ْي َناته اللتين ينظر بهما إلى صدى الوقت؛ كان
لقد كان ِت القري ُة أيام نوح شبيه ًة بالمدين ِة؛ دون عنده ذلك الشعو ُر الزائ ُف عن قيم ِة الأشيا ِء ،مثل:
َو ْح َو َح ِة الليل ،وحتى طموح الصبح في أ ْن يصب َح
وقت ،كما أ َّن أه َلها قد مالوا إلى تجارة اللُّغ ِة،
فكانوا لا يتكلمون ،واستطاعوا أ ْن يتحدثوا بعضهم موظ ًفا كسو ًل؛ ولذا ،لم يكن ليتوقع ذلك كله،
لولا أنه وقع في ِخزانت ِه ع َل أضابي َر من الور ِق،
إلى بعض باستعمال إشارا ٍت يتشاورنها بخشب استطاع بها –بعد قراءتها– أ ْن يد ِّو َن تاري َخ الفكر ِة
التي شاهدها وهو في العاشر من ُحزن ِه ،ويومها
الأبنوس ،أو بحجارة ي ُر ُّصو َنها فوق الشمس قالت له أمه –وهي تعجن الظ َّل المتسر َب من إفريز
صبيحة كل يوم. غرفتها -ك ْن مثل نو ٍح ،وام ِض إلى السراب واث ًقا
في الحكاية ،واخت ِل بنفسك دون أ ْن تبوح لعناد َل
ولما أ ْن كان نو ٌح ُلغو ًّيا ومؤمنًا بالمعنى؛ فقد َد ْق َد َق القري ِة كم يمكنك أ ْن تؤم َن بالوق ِت ،لو أ َّنك سمعت
بحصان ِه الخشب ِّي ع َل عتبة القري ِة الخرسا ِء ،وه َّز ُض َبا َح الثَّ َعال ِب أو ُر َغا َء ال ِّضبا ِع وهي تتراقص مثل
ُق ُحو َفها ،وحرك َشوادي َفها ،لكنه مثل ك ِّل الفرسان ر ِت َا ِج الساعة ع َل عتبات الصحراء ،أو استمعت
الخشبيي َن ،إذ لم يعد يؤمن ،وأفلت من بين يديه كل إلى فكاها ِت الجنود ،وال ُحوذ َّي ِة ،وال َّش ِّغ ْيل ِة و ُه ْم
تلك الحكايات عن المدينة ،ولم يعد يقرأ هذا المعنى يلقون بالمعاني ع َل قارعة الطري ِق؛ وكيف أنك قد
قرأ َت الأورا َق تلك حينما كنت مستلقيًا ع َل سرير
الذي وجده في حزمة الور ِق. الشهوة ،تمسك بأفعوان اللُّغ ِة وهو َي ْن َه ُش لحم َك.
فما الذي يمكن أ ْن يقو َله لفتيات القرية وه َّن
يرسم َن ع َل ُث ِد ِّيه َّن بأقلام الذين عاشوا بينهم من
قبل؟! وهل ثمة ما يدعوه إلى أ ْن يصد َق حكايا ِت
الشيو ِخ عن عابري َن كانوا يلبسون ِخ َشا َش
الأر ِض؟! هؤلاء الذين كانوا يأكلون ملح الطريق