Page 87 - merit 42 jun 2022
P. 87

‫‪85‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

  ‫قد سرى وانتشر في كل عضو من جسده‪ ،‬لم يعد‬                                         ‫ينشطر إلى نصفين‪.‬‬
                                         ‫يقوى‪.‬‬       ‫يقف عند الخضري يترقب أول شحنة يشحنها على‬

     ‫يجمع الطبيب حقيبته دون أن ينطق بكلمة‪ ،‬هو‬           ‫ظهره المتعب فيظفر بها ثم يعيد غيرها وهو على‬
  ‫يعاند النفس كي لا تسقط دمعة هاربة من عينيه‪.‬‬                                  ‫ذلك إلى مغيب شمسه‪.‬‬
‫ليس من عادة الحكيم أن يفر من نظرة مريض‪ ،‬هذه‬
‫المرة ُيهزم أمام مشهد الصبيان وهم يبكون والدهم‬        ‫تمضي الأيام ليكبر الصغار‪ ..‬أربعة أطفال تتقارب‬
                                                     ‫أعمارهم تفتح لهم المدارس أبوابها‪ ،‬فتجده هناك في‬
                                    ‫بقهر شديد‪.‬‬       ‫ركن قصي داخل داره المتداعية للسقوط‪ ..‬إن به ألم‬
     ‫يخرج إلى حيث الزوجة المنتظرة بلهفة فتسأل‪:‬‬        ‫أسفل الظهر قد قطع أوصاله‪ ،‬وألم في جوف نفسه‬

                ‫‪ -‬أهو أفضل؟ هل سيزول الألم؟‪ ‬‬                                 ‫عن صبيان لهم أحلامهم‪.‬‬
                              ‫يرد الحكيم مثق ًل‪:‬‬                              ‫تدنو منه زوجه وتتكلم‪:‬‬

               ‫‪ -‬لا‪ ..‬ليس أفضل ولن يزول الألم‪.‬‬                                    ‫‪ -‬أتشكو اليوم ألما؟‬
                  ‫‪ -‬إن لكل داء دواء هكذا علمونا‪.‬‬                         ‫‪ -‬اليوم وغ ًدا وإني أراه يزيد‪.‬‬
                           ‫‪ -‬ليس في هذه الحالة‪.‬‬                          ‫تبكي وتخفي دمعها وتحدث‪:‬‬
                                 ‫‪ -‬أما من دواء؟‬           ‫‪ -‬لا بأس عليك‪ ،‬أزمة تعبر وتعود مثل سابق‬

 ‫‪ -‬سيشفى من مرض الحياة‪ ،‬إنه سائر نحو موته‪،‬‬                                                    ‫عهدك‪.‬‬
              ‫لم يعد للروح قدرة على مداواة علله‪.‬‬                          ‫يتأوه بشدة ويقف ثم يقول‪:‬‬
                    ‫تبكي الزوجة بحرقة وتسأل‪.‬‬              ‫‪ -‬ألمي أشد وأقوى حين أرى أترابهم يسيرون‬
                                 ‫‪ -‬وباقي أيامه؟‬            ‫إلى مدارسهم وأبنائي عند الدار‪ ..‬أي ألم وأنا‬
                                                      ‫أنتظر كبيرهم حتى تخشوشن يداه ويصلب عوده‬
  ‫‪ -‬معدودة سيعيشها مقع ًدا دون حراك ولا كلام‪،‬‬             ‫ليصحبني عند المتاجر والدكاكين ليشتغل مثل‬
                             ‫عذ ًرا لكنها الحقيقة‪.‬‬        ‫شغلي ويحمل بدل اسمه كنيتي‪ ..‬ح َّمال الحي‪.‬‬
                                                        ‫تهم الزوجة بالحديث فلا تقدر‪ ،‬لقد جف حلقها‪،‬‬
               ‫هذه مسكنات قد تذهب الألم لفترة‪.‬‬            ‫وغلبها دمعها وأعيتها قلة الحيلة‪ ،‬فيعفيها من‬
   ‫تهم بالسؤال عن أجرة الفحص فيسكتها ويقول‪:‬‬
 ‫‪ -‬هذه هديتي للصبية‪ ،‬ويزيد عليها بعض الدراهم‬                                   ‫الحديث ليضيف قائ ًل‪:‬‬
                                                       ‫‪ -‬لو كان الأمر في مأكلهم وملبسهم فقمامة حينا‬
                      ‫فتأخذها باستحياء وخجل‪.‬‬          ‫تكفيهم‪ ..‬لكن تكاليف الدراسة تقسم الظهر السليم‬
   ‫تدخل الزوجة مطبخها المسلوب من المؤنة وتغلق‬         ‫فما بالك إن كان علي ًل سقي ًما؟ إن التجار أصبحت‬
 ‫بابه المشدود غصبًا‪ ..‬تبكي بحرقة عن حال زوجها‬
                                                                        ‫لا تناديني ولا ألومهم في ذلك‪.‬‬
     ‫وتئن بشدة‪ ،‬فالزمن القادم سيكون أشد فع ًل‪.‬‬             ‫تعاوده الأوجاع مجد ًدا وحوله يلتف الصبية‬
 ‫تعود إليه بعد أن ن َّشفت دمعها تحمل معها طعا ًما‪..‬‬    ‫ودموع تذرف من أعينهم الصغيرة تقطع القلوب‬
                                                        ‫القاسية‪ ،‬وفي الخارج الأم تبحث عن حكيم الحي‬
                                  ‫تبتسم وتقول‪:‬‬
‫‪ -‬ستكون أفضل‪ ،‬إن الحكيم أكد ذلك‪ ،‬هذه الوصفة‬                            ‫لينظر حال زوجها وقد زاد ألمه‪.‬‬
                                                      ‫تلتقيه وهو يعلم أنها لا تملك من المال سوى شكله‬
                                 ‫ستعيدك شا ًّبا‪.‬‬
      ‫يمسك يديها وفي عينيه حزن شديد‪ ،‬ويحدثها‬            ‫يرتسم في ذهنها المشوش‪ ،‬فيلبي نداء الإنسانية‬
                                                                                    ‫ليفحص المريض‪.‬‬
        ‫بصوت مثقل يخرج خافتًا تكاد لا تسمعه‪.‬‬
 ‫‪ -‬إني أعلم حبيبتي أني مودع‪ ،‬إن عينيك لم تكذب‬             ‫يدخل الدار ويرى بعينه الفقر‪ ،‬هو بعينه الفقر‬
                                                     ‫يعشش في هذه الدار ينخر سعادتها ويفتك بسمتها‪.‬‬
   ‫يو ًما‪ ،‬محمر بياضها من شدة البكاء على حبيبك‪،‬‬
   ‫إنك تحترقين أكثر مني وأنا على فراش موتي‪ .‬لم‬           ‫يواصل سيره ليصل إلى فراش الرجل العليل‪..‬‬
‫أقدر يوما على فراقك ولا على إيلامك أو إيذاء شعرة‬         ‫يشرع في فحصه يتحسس مواطن الداء‪ ،‬فيجده‬

    ‫منك فأنت ملكة عرشي وسندي‪ .‬قبلت بي وأنا‬
   ‫معدم فقير‪ ،‬وأنجبت أزها ًرا أراك فيهم وهم مني‬
   82   83   84   85   86   87   88   89   90   91   92