Page 89 - merit 42 jun 2022
P. 89

‫‪87‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

                                        ‫الحياة‪.‬‬                                   ‫إليك فلا تحزني‪.‬‬
  ‫تدخل الكلمات ثقيلة إلى مسامعها فالدموع كثيرة‬           ‫تنزل دموعها قوية ومعلنة هذه المرة‪ ،‬لم تعد‬

                      ‫وأنها تذرف أكثرها قسوة‪.‬‬                           ‫مستترة‪ ،‬إنها حارقة عنيدة‪.‬‬
  ‫في ليل كثر سواده‪ ،‬وزادت برودته واشتد طوله‪،‬‬                             ‫يعيد الحديث معها فيقول‪:‬‬
                                                      ‫‪ -‬سألت والدي يو ًما عن الدمع فقلت‪ :‬إني أرى‬
     ‫تستفيق الأم من غفوة قصيرة تتفقد صغارها‬         ‫في العيون طيف ألوان والدمع يبدو واح ًدا‪ ،‬أيصح‬
‫فتغطيهم‪ ،‬وتعود إلى مخدعها تنظر حال زوجها‪ ،‬لم‬
                                                                                            ‫قولي؟‬
  ‫ينم بعد‪ ،‬إنه يرمقها بنظرة طويلة فتطيل بدورها‬                                   ‫‪ -‬وما كان رده؟›‬
 ‫النظر إليه‪ ،‬يبتسم ابتسامة فاترة‪ ،‬تبدو عابرة مثل‬    ‫‪ -‬قال‪ :‬نعم ولا‪ ..‬نعم للعيون ألوان غير أن الدمع‬
‫سحاب سائر إلى انقشاع بعد تلبد‪ ،‬تلتها خفقة قلب‬         ‫أنواع‪ ،‬فمنها الباردة العزوف المارة بجفن العين‬
‫عنيفة‪ ،‬تصحبها أنفاس لا تبدو هادئة‪ ،‬يتمتم كلمات‬          ‫دون أن تحرك في النفس مكمن الحس‪ ،‬ومنها‬
‫غير مفهومة المعنى‪ ،‬ثم تفيض نفسه فتنقطع روحه‬            ‫الحاقدة الحارقة تسقط فإذا هي سيل من نار‪،‬‬
                                                        ‫ومنها الدافئة المتسللة من بين القلب والفؤاد‪.‬‬
                          ‫وتفك رباطها بالجسد‪.‬‬              ‫وزدت في سؤالي فقلت‪ :‬وأيها أشد قسوة؟‬
   ‫لقد رحل وبه ألم يعتصره‪ ،‬فرمقته زوجه بنظرة‬                                      ‫‪ -‬وبماذا أجابك؟‬
                                                        ‫‪ -‬قال‪ :‬دمعتان‪ ..‬الأولى دمع أم سرقها الزمن‬
                                         ‫دامعة‪.‬‬         ‫فشيعت وليدها‪ ،‬هي دمعة عنيدة حزينة تلطم‬
   ‫سحبت غطا ًء خفي ًفا ادخرته منذ زمن لنفسها في‬    ‫تجاعيد خدها فتسلك مساراته بعنف‪ ،‬تبدو حارقة‬
‫اعتقادها أنها أول المغادرين‪ ..‬وتطفئ نورها الخافت‬       ‫مثل حمم بركان تسطر خد ًشا على وجه أتعبته‬
    ‫بعد أفول نور قلبها وترقد بجانبه رقدة الوداع‬       ‫السنين‪ ،‬فأي حكاية أشد من حرقة أم تسعينية‬
                                                     ‫تبكي بع ًضا من روحها؟ والثانية دمعة أب‪ ،‬دمعة‬
                                        ‫الأخير‪.‬‬        ‫حبيسة حزينة مثقلة‪ ،‬تخفيها ابتسامة عريضة‬
 ‫بدت مثل أسيرة مشدودة إلى شجر متدل من فوق‬          ‫تمسح كدر النفس فتداوي عللها‪ ،‬هو يخفي عنادها‬
                                                   ‫وثقلها وحرقتها لأنه يعلم أنك تنظر إليه الحياة في‬
   ‫تل شاهق‪ ،‬فإن ظلت مشدودة إلى رباطها قضت‬             ‫شموخها لا ضعفها‪ .‬كنت صغي ًرا لا أعي قسوة‬
‫نحبها وإن هي فكت رباطها هلكت‪ .‬إنه وجع يصيب‬             ‫الدمع حين يذرفه الأب‪ ،‬وكذلك صغير لا أدرك‬
 ‫كبدها‪ ،‬ويرهق قلبها فلا تدري كيف تشيع حبيبها‬                        ‫قسوة دموع أخرى أراها لتوي‪.‬‬
                                                                  ‫‪ -‬وأي دمع تراه خلا ًفا لما ذكرت؟‬
    ‫وكيف ترجع للبيت تستل من وجدانها شوقها‪،‬‬              ‫‪ -‬دمع زوجين محبين آلمتهما الحياة فعصفت‬
   ‫وتبكي وحشتها ووحدتها‪ ،‬هي تعلم أنها تسطر‬        ‫ريحها‪ ،‬وأبرقت سماؤها ثم أرعدت وأفلت نجومها‪،‬‬
                                                       ‫وشارفت شمسها على المغيب‪ .‬لقد نظرت لتوي‬
                            ‫أولى أحرف الحكاية‪.‬‬          ‫دمعك يخلط دمعين‪ ،‬وإنه أقسى مما ذكره لي‬
 ‫يستفيق الحي على خبر رحيل ح َّمال أثقالها‪ ،‬فيهب‬     ‫والدي‪ ،‬إني أترجل إلى حيث مرقدي الأبدي وأنت‬
                                                      ‫هنا‪ ،‬تار ًكا لك إر ًثا تئن منه الرجال‪ .‬أطلب عفوك‬
    ‫الجمع نحو بيته لتشييع جنازته‪ .‬بدت الأشغال‬            ‫وليفتي‪ ،‬فقد خلفت وراء ظهري صبية وبيت‬
     ‫سريعة فالكل يريد أن يفرغ من واجبه ويعود‬                          ‫متساقط وفقر يأبى أن يغادر‪.‬‬
 ‫حيث ربحه وأرزاقه‪ ،‬يحملونه على نعشه في موكب‬
    ‫يحضره قليلون‪ ،‬فتتسارع الخطى ومن خلفهم‬                                            ‫تسكته قائلة‪:‬‬
‫صغار وأم محزونة‪ ،‬يقفون عند القبر حتى يتوارى‬              ‫‪ -‬إنك تتعب نف ًسا فرف ًقا بها‪ ،‬ستعيش وترى‬
                                                  ‫صغارك وقد صاروا رجا ًل‪ ،‬ونكبر ونعيش م ًعا رغد‬
                                         ‫الثرى‪.‬‬
‫هي لحظات من الزمن حتى صار الح َّمال في جوف‬

     ‫الأرض والصبية وأمهم فوقها ينتظرون قادم‬
                       ‫أيامهم‪ ..‬قد تكون مضنية‪.‬‬
   84   85   86   87   88   89   90   91   92   93   94