Page 55 - مجلة فرحة مصر بعد النصر
P. 55

‫وهنا ظهرت العبقرية المصرية في مشكلة وقت الإفطار بالنسبة‬                 ‫انتصارات أكتوبر وإعادة تشكيل الهوية‬
‫للجنود‪ ،‬فلو كان الهجوم في ساعة الظهر‪ ،‬فلن يتمكن الجنود من الصيام‬
‫كامل اليوم‪ ،‬ولو كان عند المغرب‪ ،‬لضاع عنصر المفاجأة‪ .‬فكان القرار‪:‬‬        ‫حيث كانت القوات المصرية تتحرك إلى جبهة قناة السويس في أثناء‬
‫أن يتم الهجوم في الثانية ظهًر ا‪ ،‬على أن ُيفطر الجنود بعد عبورهم القناة‬  ‫الليل‪ ،‬بينما كان بعض عناصرها يسحب في أثناء النهار بطريق لافتة‬
‫وإقامة رؤوس الكباري‪ .‬وبهذا يجمع المقاتل بين شرف الجهاد وصيام‬            ‫للانتباه لتعود إلى مراكزها في أثناء الليل‪ ،‬وعلى الضفة الغربية لقناة‬
                                                                        ‫السويس أقيم سد رملي عال أنشأوه في نهاية عام ‪ 1972‬وبلغت‬
                                                            ‫رمضان‪.‬‬      ‫نفقاته ‪ 30‬مليون جنيه‪ ،‬كان الغرض المعلن منه هو توفير المزيد من‬
‫وبالفعل‪ ،‬عبرت القوات المصرية في الموجة الأولى بخطة محكمة‬                ‫الحماية ضد أى هجوم إسرائيلي‪ ،‬في حين أنه في الحقيقة ساعد إلى‬
‫ودقيقة‪ ،‬تمثلت في عبور المشاة أوًال باستخدام القوارب المطاطية‪ ،‬ثم‬        ‫حد كبير على إخفاء حشود المدفعية والدبابات‪ .‬وعندما رصدت‬
‫الدبابات والمعدات الثقيلة بعد إنشاء الكباري‪ .‬ولأول مرة‪ ،‬ينجح الجيش‬      ‫إسرائيل التدريبات افتكرت أنها تجارب علمية أو تدريبات هندسية‬
‫المصري في عبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف المنيع‪ ،‬الذي أنفقت‬
                                                                                                                                   ‫عادية‪.‬‬
                     ‫إسرائيل على إقامته ما يقارب ‪ 500‬مليون دولار‪.‬‬       ‫على المستوى الدبلوماسي كان مندوبو مصر وسوريا في مؤتمرات‬
‫وكان نجاح العبور بفضل التخطيط السليم‪ ،‬وروح المقاتلين‪ ،‬ودقة‬              ‫عدم الانحياز وفي الأمم المتحدة وغيرها في اجتماعات يتحدثون‬
‫التنفيذ‪ ،‬والتعاون الكامل بين أفرع القوات المسلحة‪ .‬وكان مشهد الجنود‬      ‫بأسلوب السلام‪ ،‬بينما كانت الصحف والإذاعة فد وجهت إلى إبراز‬
‫المصريين‪ ،‬وهم يرفعون علم مصر على الضفة الشرقية للقناة من أعظم‬           ‫اهتمام مصر وسوريا بالبحث عن حل سلمي للنزاع القائم في المنطقة‬
                                                                        ‫العربية وإظهار عدم الرضا عن الخطب والعمليات العسكرية التي‬
                                 ‫اللحظات التي ُخلدت في وجدان الأمة‪.‬‬
‫وتمت العملية بنجاح يفوق الوصف‪ ،‬وسجل التاريخ أعظم ملحمة عسكرية‬                                               ‫يقوم بها الفدائيون الفلسطينيون‪.‬‬
‫في العصر الحديث‪ ،‬وحينما ُسئل الجنود عن شعورهم في هذه اللحظة‪،‬‬            ‫وقبل الحرب بفترة قصيرة‪ ،‬تم تسريح بعض المجندين رسمًيا‪ ،‬ومنح‬
                                                                        ‫عدد كبير من الجنود إجازات‪ .‬في حين فسرت إسرائيل هذه‬
                                                        ‫أجاب أحدهم‪:‬‬     ‫الإجراءات أنه استحالة تكون في حرب قريبة؛ لأن الجيش يفقد‬
‫"لقد كان هذا اليوم أعظم يوم في حياتي‪ ،‬شعرت أنني أسترد كرامتي‬            ‫جاهزيته‪ .‬كما تم ترتيب السفر لعدد من الضباط والجنود للسفر فعليًا‬
                                                                        ‫إلى الأراضي المقدسة لأداء العمرة قبل الحرب بأيام‪ ،‬والتي اعتقدت‬
                                                     ‫وكرامة وطني"‪.‬‬      ‫منه المخابرات الإسرائيلية‪ ،‬إن الجيش المصري في حالة "روحانية"‬
                                                                        ‫لشهر رمضان مش حربية‪ .‬هذا كان جزءا من خطة تضليل ضخمة‬

                                                                                                 ‫بخصوص الحالة النفسية والمعنوية للجيش‪.‬‬
                                                                        ‫وبالفعل‪ ،‬نجح هذا التكتيك في جعل إسرائيل تستهين بإمكانية نشوب‬
                                                                        ‫حرب‪ ،‬وهو ما شّكل عنصر المفاجأة الحاسم في يوم العبور‪ ،‬إن حجم‬
                                                                        ‫الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي في عام ‪ 1973‬لا يزال مذهاًل بعد‬
                                                                        ‫مرور أكثر من خمسين عاًما؛ فقد تزامنت الحرب مع أقدس يوم في‬

                                                                                                             ‫السنة اليهودية (يوم الغفران)‪.‬‬
                                                                        ‫وصدرت الأوامر النهائية في ساعة الصفر‪ ،‬ظهر يوم السبت السادس‬
                                                                        ‫من أكتوبر عام ‪ ،1973‬الموافق العاشر من رمضان‪ ،‬ببدء العبور‬
                                                                        ‫العظيم‪ .‬وقد ُحددت ساعة الصفر لتكون في الثانية ظهًر ا‪ ،‬حتى تكون‬
                                                                        ‫الشمس خلف ظهور الجنود المصريين في أثناء العبور‪ ،‬وتكون في‬

                                                                                 ‫مواجهة العدو الإسرائيلي الذي لن يستطيع الرؤية بوضوح‪.‬‬

‫‪51‬‬
   50   51   52   53   54   55   56   57   58   59   60