Page 71 - merit 39 feb 2022
P. 71
69 إبداع ومبدعون
القصــة في ليبيا
قد أصبحت طائ ًرا ..طائ ًرا حقيقيًّا لا شك فيه، القارب يمضي في سبيله ،وإذ تشرع الأكياس
وكانت عيناي ممتلئتين بآلاف الصور ،والسموات تتمزق ،وتهب الريح ،تنبثق الرؤوس المشوهة
والألوان ،وكان جرابي معبأ بالحكايات ،وكان في منطلقة وراء القارب في ذعر بالغ ،بينما هي تواصل
إلقاء الأكياس مقتعدة الدفة ،مجنونة ممتلئة أكيا ًسا،
إمكاني أن أطير حتى ألمس قبة السماء ..أن ألمس
سقف العالم. فاسقة ،حالمة بلا انقطاع.
العجوز -تلك المرأة الرديئة -هل تبكي من أجلها يا
حكايتي عجيبة..
ولقد بنيت ع ًّشا صغي ًرا بين فرعي صنوبرة عتيقة، صديقي؟
ثم ربت على رأسي مرة أخرى ،ونظر إل َّي بعينين
ونفضت قلبي مثل جرو مبتل ،وثم طفقت أحكي صافيتين ،عميقتين مثل مياه المحيط نفسه ،وقال لي
للآخرين عن الربيع ،والمراعي المستلقية باتساع
بود:
السماء ،والأشرعة. – كفى ،لا تعد تبكي ..فأنا سأحملك معي.
ولكن أح ًدا لم يكن يرغب في أن ينصت إل َّي ..حتى – ونفض عن كتفي كل التعب والحزن ،وسرنا
بدا الأمر كمن (يبيع الريح للمراكب) الغارقة! سو ًّيا نحو القارب.
لقد انفضوا ..وغادروا.. حكايتي عجيبة..
وعندئذ ظللت أصرخ ،وأصرخ إلى أن تفرجت ولقد انطلقت عبر كل البحار ،ونمت في كل المرافئ
رئتاي ،وقيل لي إنني مجرد طائر سيئ السمع والجزر ،واستمرت رحلتي أل ًفا من السنين أو
يزيد ،وتعرفت على كل الصيادين ،والبغايا،
والطالع ،أعنى مثل غرا ٍب تما ًما.
وبكيت مرة أخرى.. والسكارى ،والأمهات ،والشحاذين،
والرعاة ،والمقامرين ،والأطفال ..تعرفت
وكنت لا أزال أبكي حين أدركني النوم ..وكنت لا
أزال ابكي أي ًضا حين أقبل (سندباد). على كثير من القلاع ،والتيارات،
والأمواج ،والرياح.
تهالك عند قدمي الشجرة دون أن يرفع بصره إل َّي،
وهتف كمن يحدث نفسه: وحين عدت في نهاية المطاف ،كنت
– الطيور الزاهية الألوان غطت بأجنحتها الأفق،
وملأت النهار بالصداح ،أجل الطيور المغنية
الراقصة.
ثم نهض وقال -ها ًّزا رأسه -فيما كان يبتعد:
– الطيور الطروبة الراقصة الملونة أفسدت كل
شيء!
وقبل ان أقول له أيما شيء ،اختفى..
وعلى هذا فقد تركت شراعي يشرب الريح ذات ليلة،
بدأت رحلة طويلة أخرى إلى أقصى الآفاق ،حام ًل
معي رائحة الصنوبر العتيقة ،وجرا ًبا من الذكريات.
وكان ذلك بداية غربة أخرى.
أخي ..يا صديقي..
يقول (أوسكار وايلد) :من يعش أكثر من حياة،
يقاسي أكثر من موت..