Page 73 - merit 39 feb 2022
P. 73

‫‪71‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫القصــة في ليبيا‬

  ‫لحظة‪ ،‬أثر هذا الخوف على حكمه على الأشياء‪ ،‬بد ًل‬      ‫السياسية تسبب لها المزيد من البعد عن تلك المواقع‪،‬‬
    ‫من الاستغراق في الأعمال الخاصة المفيدة‪ ،‬اكتفى‬          ‫بعكس جارتها‪ :‬سعاد المولعة بالردود السياسية‬
    ‫بالصفقات الحكومية‪ ،‬تلقي النثريات والندوب من‬             ‫الوقحة ومتابعة كل شيء متعلق بالتصريحات‬
   ‫مكان إلى آخر والاستفادة من الرحلات والنوم في‬
      ‫الفنادق‪ ،‬وقد أحاط نفسه بشخصيات مشبوهة‬             ‫السياسية والتحركات العسكرية المليشياوية الطابع‬
   ‫من هذا الوسط العاري من الأشكال والأطر‪ ،‬شبكة‬             ‫في كل أرجاء البلاد‪ ،‬بالرغم من تجاهلها المستمر‬

‫علاقات غريبة‪ ،‬جلها من المغامرين الإداريين عبر كافة‬       ‫إلا أنها تشعر بثقل هذه التحركات العنيفة‪ ،‬التي لا‬
‫المدن‪ ،‬يلتقون مرا ًرا‪ ،‬لقاءات لا تتوقف وبشكل دوري‪.‬‬     ‫تتوقف من حولها‪ ،‬على مزاجها ونفسيتها‪ ،‬فقد تبدل‬
                                                         ‫جيرانها وازداد ْت اللهجة العدائية‪ ،‬وتحول الصمت‬
   ‫حين يجتمعون فإنهم يستهلكون كميات كبيرة من‬           ‫الإلزامي إلى نوع مجهد من التوتر المصاحب لنظرات‬
  ‫السجائر والقهوة‪ ،‬يخلفون كميات أكبر من الأواني‬        ‫الاتهام الباعثة على القلق‪ ،‬كان ْت تشعر بهذه النظرات‬
   ‫المتسخة‪ ،‬القاذورات الصغيرة‪ ،‬كما يعيثون فوضى‬
   ‫في مجلسهم‪ ،‬فتضطر لتقديم وجبات متتالية‪ ،‬تظل‬              ‫من حولها‪ ،‬إنها ذات النظرات التي تحدثت عنها‬
 ‫واقفة لساعات تلبي متطلباتهم‪ .‬وظيفة يومية مدمرة‬         ‫جارتها من الدور الثاني‪ ،‬منذ قرابة خمس سنوات‪،‬‬
  ‫للأعصاب‪ .‬فقدان رهيب لطاقتها الداخلية‪ .‬إحساس‬
   ‫كالسرطان ينتابها‪ .‬خشي ْت من هذه الفكرة القاتمة‬          ‫تلك الجارة ترك ْت المبنى والإقليم بأسره‪ ،‬بسبب‬
   ‫حتى أنها تعمل بشكل متواصل على تهوية الشقة‪،‬‬           ‫قلقها على أبنائها‪ ،‬إنما فقد ْت ثلاثة من عائلتها‪ ،‬أبناء‬
   ‫كأنها تفتح شبابيك من جسدها لتهوية نفسها من‬          ‫أخواتها‪ ،‬قت ًل في شوارع المدينة‪ ،‬التي ترعرعوا فيها‪،‬‬

     ‫الداخل‪ .‬شقتها في الطابق الرابع ويتوجب عليها‬         ‫قتلوا جمي ًعا على أيدي أصدقائهم‪ .‬عاش ْت هنا ‪-‬في‬
 ‫الاهتمام بكل شيء‪ ،‬من شراء البقالة اليومية‪ ،‬إخراج‬      ‫هذا المبنى‪ -‬منذ بلغت الأربعين‪ ،‬ولم تعد الحياة آمنة‬
                                                       ‫بالنسبة لأبنائها‪ ،‬هذا ما أعلنته كأنها تذيع س ًّرا‪ ،‬فقد‬
      ‫القمامة‪ ،‬أخذ الأطفال إلى المدرسة‪ .‬لديها ابنتين‬    ‫بدأت تخاف من بقية الجيران‪ ،‬عشرون عا ًما ليس ْت‬
   ‫وصبي‪ .‬الكبرى ُسمي ْت مريم وهي التي ستخوض‬            ‫مدة كافية لخلق عائلة واحدة‪ ،‬الأحداث العنفية ألغ ْت‬
  ‫لأجلها معركة فعلية هذه الأيام‪ .‬الثاني صبي يدعى‬       ‫كل تلك السنين التي بد ْت طويلة‪ ،‬لكنها لم تعد تعني‬
 ‫عمر وتناديه عموري وهو لا يحب هذا‪ ،‬في الخامسة‪.‬‬          ‫أي شيء‪ ،‬الحقد السياسي كان يتكاثف في الأجواء‪،‬‬
   ‫الأخيرة بنت مثل القمر اسمها ليال‪ .‬سنة ونصف‪،‬‬        ‫حتى هي بدأ ْت تحس بأن هذا الحقد الأثيري ُيلامسها‬

      ‫كان ْت تود تسميتها ليليان‪ ،‬إلا أن مكتب السجل‬        ‫ببطء شديد‪ ،‬كأنها في حلم مزعج‪ ،‬وهي تغرق في‬
 ‫المدني شككوا في كون الاسم أعجميًّا‪ ،‬فأحالوا الطلب‬      ‫رمال لزجة غامقة كالدم‪ ،‬غير قادرة على الاستيقاظ‬

    ‫إلى مكتب الأوقاف السلفي‪ ،‬وقد تم رفض الاسم‬                  ‫مهما حاول ْت‪ .‬الحقد السياسي واقعي ج ًّدا‪.‬‬
  ‫مباشرة‪ .‬تصرف وقح كأنه الكفر متجسد أمام باب‬             ‫زوجها صيدلاني‪ ،‬صاحب طبع متقلب‪ ،‬لديه نزوع‬
                                                        ‫نحو الشكوك والقلق من البقاء وحي ًدا‪ ،‬أخبرها بهذا‬
     ‫الفردوس‪ .‬الاسم أعجمي ج ًّدا‪ ،‬لدرجة «حيوانية‬      ‫السر بشكل عرضي خلال الأيام الأولى من زواجهما‪،‬‬
     ‫مقيتة»‪ ،‬ولا يختلف في شيء عن العجم أنفسهم‪.‬‬
‫شيء زائد وبلا معنى وهو ليس باسم إسلامي‪ .‬كيف‬               ‫بد ْت كأنها جملة قيل ْت مثل كل الجمل‪ ،‬لأنه لا بد‬
 ‫يمكن أن يكون اس ًما غير عربي؟ في البداية لم تتفهم‬     ‫من قولها‪ ،‬لكن بعض الكلمات ليس ْت مصادفات مثل‬
   ‫الهدف الأخلاقي وراء هذا الرفض‪ ،‬اعتبرته «حم ًقا‬     ‫بعض التصرفات اليومية‪ ،‬فقد عاش حياته وحي ًدا‪ ،‬لم‬
‫أصوليًّا» وأراد ْت من زوجها القتال لأجل ليليان‪ ،‬وهو‬   ‫يعرف معنى العائلة وبدا هذا أم ًرا مؤلمًا ج ًّدا‪ ،‬اختياره‬
 ‫ما لم يحدث‪ ،‬حتى زوجها اعتبر هذا التصرف «نزوة‬         ‫لمهنة الصيدلة ‪-‬في نظره‪ -‬لم يكن خيا ًرا موف ًقا‪ ،‬أدرك‬
‫عصرية» متعلقة بمواقع التواصل الاجتماعي أكثر من‬        ‫هذا مع أول ليلة قضاها داخل تلك الصيدلية‪ ،‬اكتشف‬
 ‫كونها حقيقة واقعية‪ .‬خيبتها كان ْت عظيمة‪ ،‬فقد ظن ْت‬    ‫وض ًعا مدم ًرا للأعصاب‪ ،‬كأن الصيدلة هي مهنة من‬
‫أن هذا من الإشكاليات البيروقراطية التي تم تجاوزها‬
                                                         ‫يبحثون عن العزلة داخل ليبيا‪ ،‬بالنسبة إليه كان ْت‬
                                  ‫من بعد الثورة‪.‬‬        ‫المسألة مرعبة‪ ،‬تنتابه مخاوف من وجود شخصية‬
                                                        ‫داخل خزانة ملابس‪ ،‬يتوقع انبثاق الوحوش في أية‬
   68   69   70   71   72   73   74   75   76   77   78