Page 78 - merit 39 feb 2022
P. 78
العـدد 38 76
فبراير ٢٠٢2
لمدرسة أخرى». صدرها ببطء ،تجاوزتها ووضع ْت ركوة القهوة على
هكذا قال المدير في نفس واحد ،كان مدي ًرا جدي ًدا ،منذ النار ،بحسب إرشادات جارتها سعاد ،خريجة كلية
التمريض وقد منح ْت نفسها حقو ًقا سيادية خاصة
ثلاثة أشهر وهو يعمل على تنظيم العملية الإدارية بالأطباء ،وبالوحي العلمي المنبعث من هذه السيادة
داخل المدرسة ،هكذا أعلن في مسجد الحي ،لكن الطبقية ،كون ْت نظريات متعددة حول حالتها منها:
المدرسة دخل ْت في صدام مع معلمي الخلوة الدينية، إدمان القهوة ،التلفاز ،الدورة الشهرية ،الحزن
بسبب الأغنية التونسية التي لا تتوقف إلا لتعود الروحي وذكريات عن عشاق سابقين ،مزحات تافهة
باعثة ج ًّوا من الخمول والتشاؤم ،إلا إن الصغار
بطريقة ما ينتعشون كلما تم ْت إذاعتها. تلو المزحات التافهة ،إلا أنها اهتم ْت بحديث جارتها
حول مسألة الإدمان ،فملأت كوبها قهوة سوداء بلا
تطلع ْت إلى جهة المدير ،كان ينقر في جهازه ،وأمامه
عدد كبير من الملفات ذات الألوان المختلفة .أخذ ْت سكر.
نف ًسا ،فيما بدأت الإخصائية بالحديث ،أحس ْت في المدة الماضية ،اقتنت مجموعة من الأفلام التي
أنها تقف في زاوية ضيقة ،غير قادرة على التنفس، تتحدث عن البرية ،لتشاهدها طوال أيام غياب زوجها،
سحب ْت المزيد من الهواء متجاوزة الضيق وتدخل صمم ْت جدو ًل أني ًقا لهذا السبب ،خمسة أفلام في
المدير لتوضيح شيء ما عن بطء الفهم ،وقال إن اليوم ،قرابة خمسين فيل ًما ،أضاعت أربعة أيام دون
التوحد مرض جديد وشائع بسبب أغاني معينة، أن تتابع شيئًا ،الصداع اللعين ،زوجها ليس إلا
ثقبًا رهيبًا في حياتها ،بدد كل تفاصيلها الشخصية،
عندها دون أن تدرك ما يحدث في داخلها ،صرخ ْت تدرك هذا في لحظات معينة ،هذه واحدة منها ،عليها
بأعلى ما تستطيع في وجه المدير ،الذي ُصدم من أن تذهب إلى المدرسة وتحقق المعجزة .الإخصائيات
الاجتماعيات الشابات دو ًما ما يهدفن لإثارة إعجاب
حدة الصوت ،تراجع إلى الوراء قلي ًل وهو جالس على مدير المدرسة ،أما الناضجات منهن فيردن إظهار
كرسيه ذي العجلات ،ظهر ْت علامات سخيفة على
وجهه فيما أخذ ْت هي تصرخ بحدة واتصال ،كأنها حمق الجميع.
لم تخطئ مطل ًقا ،استقبلتها إخصائية شابة ،بملابس
تنفث كل الضغط من صدرها إلى الخارج ،بدأ ْت بعدها عصرية ،تحمل أورا ًقا بيدها اليسرى ونقالها iPhone
محاضرة أخلاقية ،قالت بوضوح تام« :المدرسة XSبيدها اليمنى ،تتحدث بسرعة عن مستوى الطالبة
مديرها سيئ للغاية ،ثلاثة أشهر مر ْت ولم نسمع إلا مريم ،لم تتفهم مطل ًقا أن يقال عن ابنتها ،بطيئة
أغنية تونسية ،وعبر إذاعة المدرسة ،لا صفوف ولا الفهم ،في جميع دفاترها ملاحظات من المدرسات
تشيد بذكائها ،درجاتها ممتازة ،وصحتها بأفضل
منهاج ،أطفالنا حفظوا هذه الأغنية السخيفة ،أكثر من حال ،ولتأكد على خطأ اللجنة طلب ْت أن تأتي مدرستي
دروسهم». اللغة العربية والرياضيات ،في آخر مراجعة قامتا
بشكر الطالبة وعلى حسن انتباهها ،واصل ْت تجاهل
كان صوتها حاق ًدا ،كانفجار كارثي ،تداعى كل ضربات الصداع ،وتفكر في العودة سري ًعا إلى البيت
شيء بلا توقف .الإخصائيات والمدرسات تجمعن
من أجل أن ترتاح ،ما لم تفهمه مطل ًقا هو تبدل
في لحظات وحاولن تهدئتها ،فيما بدأ ْت مدرسة موقف مدرستي اللغة العربية والرياضيات ،قالتا
صغيرة بالبكاء ،أخذ ْت هي ترتعش من شدة الغضب. إنها مقصرة تما ًما ولا أحد يتابعها ،أغمض ْت عينيها
دار المدير في المكتب بقلق متماسك .طلب كو ًبا من للحظات ثم سألت عما يحدث.
الماء وأعلن لها عدة مرات أنه لن ُيرجع ابنتها وأنها عندها قال المدير الجالس في طاولة بعيدة« :المدرسة
ستنجح وتواصل إلى الصف التالي ولا شيء سيئ مكتظة ،لا يمكننا نقل طالبة إلى صف أعلى دون أن
تكون جاهزة ،لكننا بوسعنا أن نمنحها درجة النجاح
سيحدث .جلبوا لها كو ًبا من الماء البارد ،فبدأ ْت
بشربه ،عندها قال منب ًها« :لكن لا بد من متابعتها لكن لا بد من توقيع ورقة تعهد على أنها ستنقل
باهتمام في الصف الرابع» .فتطلع ْت إليه بحدة وهي
تضع الكوب مستعدة ،فالتفت المدير بسرعة خار ًجا
من الغرفة ،والمدرسة الصغيرة كانت لا تزال تشهق
وهي تحتضنها.