Page 79 - merit 39 feb 2022
P. 79
77 إبداع ومبدعون
القصــة في ليبيا
رعشات الدخان داخل دماغها ،تذكر ْت هذا :عندما لم تعرف مطل ًقا سببًا لغضبها المفاجئ ،ليس لأن
بلغت العاشرة ،دخن ْت سيجارتها الأولى .كان الوقت ابنتها تعاني مشكلات مع إدارة دراسية ،انهيار
لي ًل ،خرج أحد رفاق والدها من البيت مسر ًعا وألقى أسطوري ،استعادته وهي تمشي في الطرقات ساهمة
ومرهقة ،تحت أشعة الشمس الصيفية ومر ْت بجانب
بسيجارة على الأرض .كان ْت مشتعلة في العتمة، شاب عشريني ُيدخن ،فأحست برأسها يلتهب
التقطتها وتطلع ْت إليها للحظات ثم سحب ْت منها من الداخل ،وبالدماء تغلي في عروقها وأن عينيها
أنفا ًسا حارقة وأعاد ْت الكرة عدة مرات ،تذكر ْت هذا تشتعلان ،أحست بتناقضات تحدث :النشاط تفجر
جي ًدا ،لم تسعل إلا مرة واحدة ولم تتضايق كثي ًرا، في أطرافها ،متراف ًقا مع أصوات تكسر عظام داخل
والدها لا ُيدخن ،لكن عمها ُيدخن علبتين في اليوم، رأسها ،كأن سي ًخا ملتهبًا تم غرسه من فتحة أنفها
وقد تعلم التدخين وهو في السابعة عشرة ،عندما إلى عمق دماغها ،من تلك البقعة العميقة أدرك ْت أنها
بلغ الخامسة والستين ،طلب منه الطبيب التوقف تريد هذا بالفعل ،اشتم ْت الرائحة باشتياق وتلذذ،
عن التدخين ،فرفض بعناد قبلي ،لم يكن مقتن ًعا أن فوجد ْت نفسها تتجه إلى بقالة صغيرة ،دخل ْت وطلب ْت
التدخين يسبب الوفاة ،ودليله أن من علمه التدخين لا من البائع السوداني بفصاحة ووضوح« :قرطاس
يزال حيًّا. روثمان من فضلك».
تذكر ْت كل هذا مع سيجارتها الأولى .الصداع تلاشى قبل سنوات عندما دخل ْت مع زوجها المحل للمواد
الغدائية وأمام صندوق المحاسبة طلب زوجها علبة
كالوهم ،وأصبح مزاجها جي ًدا ،خرج ْت إلى الصالة، تبغ بنفس هذه الكلمات ،تذكر ْت هذا بوضوح ،وقد
واصل ْت التدخين عائمة في عالم غامض من الذكريات قلد ْت نبرته بإتقان شديد وكان ْت مقنعة ج ًدا ،لنفسها
والهدوء ،على حافة جميع الأشياء ،تنفث دخا ًنا كثي ًفا
أو ًل وثانيًا للسوداني ،حتى منحها قرطاس تبغ
كأنها تنفض جميع همومها بعي ًدا عنها ،أغمض ْت روثمان فخرج ْت والصداع على وشك تحطيم رأسها.
عينيها وقذف ْت الدخان بغزارة شاعرة أنها تقذف
القرف الذكوري كله هذه المرة ،ارتعش جسدها حتى دخل ْت شقتها كاللصوص ،ابنتها الصغرى في شقة
أطراف أصابعها ،جمع ْت ري ًقا لذي ًذا مشب ًعا بحريتها سعاد ،لم تأخذها كما تفعل عادة .أخرج ْت علبة التبغ
المستعادة وابتلعته بجشع شهواني ،أحاسيس ال ُقبلة
الأولى .أرجع ْت رأسها إلى الوراء باسترخاء تام ،ظل ْت من حقيبتها اليدوية ،ووضعتها على الطاولة ،بدأ ْت
هكذا لساعة ،قام ْت بعدها واستحم ْت لمدة نصف تصارع فكرة شبه عابرة ،ذكريات مستعادة ،فهمتها
ساعة ثم خرج ْت مع إحساس بخفة كأنها تطفو عبر
بغتة :على مدى سنوات عملها في الاهتمام بزوجها
الممر باتجاه الصالة ،بجسد متفتح المسام. وضيوفه ،أحيا ًنا طوال اليوم ،يدخنون ويلعبون
شرب ْت الماء وبدأ ْت تلوك علكة برائحة النعناع ،عندما
شاهد ْت اللوحة التي رسمها ابنها قبل أيام ،جلس ْت الورق ،يدخنون المزيد ويلعبون المزيد ويدخنون وهي
تسحب كل ذلك .لا بد أنها أدمن ْت التدخين دون أن
بهدوء وهي تطالع فيها :حلقة من الرجال في حالة
فوضوية ،خطوط ترتعش صاعدة من السجائر تعرف ،تنشق ْت كميات هائلة من تلك الأدخنة السامة،
على مدى السنوات ،الأيام القليلة الماضية عان ْت
الظاهرة بين أصابعهم ،أكواب ملقاة ،أمعن ْت النظر في
الرسمة مدركة ما أخطأت فهمه المرة الماضية .واصل ْت الصداع والتيه ،بسبب غيابهم عن البيت ،قرابة خمس
سنوات لم يكفوا عن الحضور ،بشكل شبه يومي.
التطلع إلى الخطوط المرتعشة والصاعدة نحو سماء لم تتوقع أب ًدا هذه المعاناة بسبب غيابهم .تركوا
الشقة وهناك في عمق السحابة المتشكلة ،شاهد ْت في جسدها هذه العلامات الفظيعة ،بالرغم من أنها
فكر ْت دو ًما بطردهم مثلما فعل ْت واحدة من عماتها،
مخلو ًقا غريبًا ،بوجه دخاني بلا أنف وبعينين عندما دخل ْت على زوجها وأصدقائه ،في المربوعة،
محمرتين وفم ممتلئ بالأنياب ،يتطلع نحوها بتحفز.
فوجدتهم يلعبون القمار ،رفع ْت عصى غليظة وهوت
على رؤوسهم تبا ًعا ،ضحك ْت وهي تشعل السيجارة
الأولى ،وهي تتخيل نفسها تفعل مثل عمتها ،مع أولى