Page 81 - merit 39 feb 2022
P. 81

‫‪79‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫القصــة في ليبيا‬

   ‫عن مقعدها متهيِّأة للمغادرة‪ .‬وسمع مؤل ُف هذه‬       ‫اصطياد فكرة أقرب ما يكون إلى حال صياد يطارد‬
‫القصة‪ ،‬بأذنيه‪ ،‬صوت الرجل الأربعيني يسألها عن‬               ‫فريسة مراوغة‪ .‬هو‪ ،‬على وجه الدقة‪ ،‬لا يعرف‬
 ‫رقم هاتفها النقال‪ .‬وسمع بوضوح الأرقام تتدفق‬
 ‫سري ًعا من فم المرأة‪ .‬والتفت برأسه للخلف‪ ،‬ورأى‬          ‫السب َب وراء ذلك‪ ،‬ولا ُيحيره‪ ،‬أو ُيربكه كثي ًرا إن‬
                                                            ‫كان متسو ًل أو صيا ًدا‪ ،‬خلال بحثه عن فكرة‬
     ‫الرجل يسجل الأرقام بلهفة وسرعة في هاتفه‪.‬‬
   ‫توقفت الحافلة‪ .‬وتح ّركت المرأة‪ ،‬في طريقها نحو‬        ‫تستهويه‪ ،‬وتحفزه على تسولها أو اقتناصها‪ .‬كان‬
   ‫باب الخروج‪ ،‬ومودعة الرجل الأربعيني بتلويحة‬          ‫يسير ذلك اليوم «الكوفيدي»‪ ،‬في شوارع خالية من‬

                ‫من يدها اليمنى‪ ،‬وابتسامة واعدة‪.‬‬          ‫المارة‪ ،‬يستفرد بها صم ٌت وحش ٌّي‪ ،‬بارد‪ .‬وربما‪،‬‬
      ‫بعد مغادرته للحافلة‪ ،‬فكر مؤلف هذه القصة‬              ‫لذلك السبب أو غيره‪ ،‬قرر‪ ،‬فجأة‪ ،‬تغيير خطته‬
     ‫في الموقف الذي حدث وكان شاهده‪ .‬واستعاد‬           ‫بأخرى‪ .‬إذ بد ًل من مواصلة السير‪ ،‬قرر أن يستقل‬
  ‫تفاصيله‪ .‬ووصل إلى قناعة مفادها أن المرأة كانت‬        ‫حافلة عامة‪ ،‬مقن ًعا نفسه أن الفرق‪ ،‬بين السير على‬
  ‫أقرب ما تكون إلى صياد ماهر‪ ،‬محترف‪ ،‬أفلح في‬           ‫قديمه‪ ،‬أو الجلوس في حافلة عامة‪ ،‬أو في مقهي‪ ،‬قد‬
   ‫اقتناص أول فريسة صادفته من أول طلقة‪ .‬وأن‬              ‫ينمحي أحيا ًنا‪ ،‬خاصة إذا لاحت الفرصة‪ ،‬وتوفر‬
 ‫الرجل الأربعيني أقرب ما يكون إلى مؤلف قصص‬
  ‫وحكايات‪ ،‬غادر صمت بيته بهدف أن يتس َّول‪ ،‬أو‬                            ‫احتمال تحقيق الهدف المأمول‪.‬‬
   ‫يصطاد فكرة تلهمه‪ ،‬وتستفز خياله‪ ،‬وتحثه على‬                ‫الحافلة التي استقلها‪ ،‬في ذلك الوقت‪ ،‬من ذلك‬
                                                       ‫اليوم «الكوفيدي» كانت مخيِّبة لتوقعاته‪ ،‬وأصابته‬
                                    ‫كتابة قصة‪.‬‬               ‫بإحباط‪ .‬أغلب مقاعدها شاغرة‪ .‬وعلى المقاعد‬
‫سار على رصيف شبه خا ٍل من الما ّرة‪ .‬قبل أن يعثر‬             ‫المشغولة‪ ،‬جلس ركاب قلائل‪ ،‬يدثرهم ضج ٌر‪،‬‬
‫على مقهى‪ .‬وجد كاتب هذه الق ّصة نفسه منجد ًبا إلى‬            ‫ويحاصرهم صم ٌت‪ .‬اختار مؤل ُف هذه القصة‬
                                                        ‫الجلوس إلى مقعد ليس بعي ًدا عن مقصورة سائق‬
   ‫تذكر تفاصيل ما حدث في الحافلة‪ .‬لحظة صعود‬                 ‫الحافلة‪ ،‬وليس قريبًا من امرأتين متجاورتين‬
‫المرأة‪ ،‬ثم نظرتها الخاطفة‪ ،‬التي بدت وكأنها تمسح‬          ‫مضغهما الزمن‪ .‬وفي صف المقاعد الخلفية‪ ،‬جلس‬
                                                       ‫رج ٌل أربعيني‪ُ ،‬يشغل ملله بتصفح جريدة‪ .‬توقفت‬
   ‫كل َم ْن كان بها‪ ،‬كصياد‪ ،‬لدى وصوله إلى مكان‬          ‫الحافلة في المحطة التالية‪ ،‬وصعدت امرأة‪ ،‬بدت له‬
 ‫يحتوي على أكثر من فريسة محتملة‪ .‬توجهها نحو‬             ‫على شيء من جمال وأنوثة‪ ،‬ولم َتلكها بعد أسنا ُن‬
                                                        ‫الزمن‪ ،‬وأختار ْت الجلو َس في صف المقاعد الأخير‪،‬‬
     ‫الصف الأخير من المقاعد‪ ،‬واختيارها الجلوس‬
   ‫على بعد مقعد واحد من الرجل الأربعيني‪ ،‬وكان‬                     ‫على مسافة مقعد من الرجل الأربعيني‪.‬‬
‫بإمكانها الجلوس على مسافة أبعد‪ .‬الأمر الآخر‪ ،‬هو‬       ‫يبدو أن مؤلف هذه القصة‪ ،‬كعادته‪ ،‬انشغل بمتابعة‬
  ‫أن الحافلة لم يكن بها من الذكور إلا ثلاثة‪ .‬أولهم‬
   ‫السائق‪ ،‬وثانيهم هو‪ ،‬وثالثهم الرجل الأربعيني‪.‬‬           ‫ما يدور في ذهنه من أفكار‪ ،‬أو بما كان يدور في‬
    ‫واختارت هي تجاوز الاثنين الأولين‪ ،‬والتو ُّجه‪،‬‬     ‫الطرقات والشوارع‪ ،‬التي تم ُّر بها الحافلة‪ ،‬لأنه حين‬
     ‫مباشرة‪ ،‬نحو الثالث‪ ،‬كصيَّاد أتيحت له فرصة‬
    ‫اختيار فريسة محتملة من ثلاث‪ ،‬فقادته خبرته‬           ‫انتبه من سرحانه‪ ،‬والتفت برأسه للخلف فضو ًل‪،‬‬
                                                        ‫وجد المرأة والرجل الأربعيني منهمكين‪ ،‬في حديث‬
      ‫نحو الأفضل‪ ،‬والأكثر إمكا ًنا وتحق ًقا‪ .‬السائق‬    ‫ودي‪ .‬أح َّس بشيء من حسرة‪ ،‬لأنه لم يكن منتب ًها‬
‫احتمال أ َّولي‪ .‬لكنه بسبب ظروف عمله‪ ،‬يظل احتما ًل‬       ‫تما ًما‪ ،‬من منهما تجرأ أو ًل بم ِّد حبل الكلام‪ ،‬وج َّر‬
 ‫بعي ًدا‪ .‬وكاتب هذه القصة احتمال ثان‪ .‬لكنَّه بلحيته‬
                                                                                 ‫الآخر نحوه‪ ،‬أو كيف؟‬
  ‫الرمادية الكثَّة‪ ،‬غير المهذبة‪ ،‬يبدو كمن دهمه قطار‬        ‫تر َك عينيه مس َّمرتين على الطرقات والشوارع‪،‬‬
   ‫الزمن مبك ًرا‪ ،‬وتركه ملقيًا على أرض بلا ملامح‪،‬‬       ‫وكأنه غير مبا ٍل بما يدور من حديث بين الراكبين‬
  ‫يجت ُّر الأسى والذكريات‪ ،‬متس ِّو ًل شفقة العابرين‪.‬‬    ‫في آخر الحافلة‪ .‬لكن حين بدأت الضحكا ُت تطول‪،‬‬
 ‫والرجل الأربعيني‪ ،‬الاحتمال الأخير‪ ،‬رغم انهماكه‬          ‫متخللة الحديث‪ ،‬لم يعد بإمكانه مقاومة فضوله‪.‬‬
   ‫في قراءة صحيفة‪ ،‬يبدو أصغر سنًّا‪ ،‬وأكثر رغبة‬        ‫قبل وصول الحافلة إلى المحطة التالية‪ ،‬نهضت المرأ ُة‬
   76   77   78   79   80   81   82   83   84   85   86