Page 80 - merit 39 feb 2022
P. 80

‫العـدد ‪38‬‬                            ‫‪78‬‬

                                                                ‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫جمعة بوكليب‬

‫(ليبيا)‬

‫ذات نهار «كوفيدي»‬

       ‫الوقت‪ ،‬جال ًسا على كرسي‪ُ ،‬مدخنًا ومحتسيًا‬      ‫حين غادر دف َء بيته مبك ًرا‪ ،‬ذات نهار «كوفيدي»‬
     ‫قهوة ُمر ًة‪ ،‬وفي نفس الوقت يتلصص‪ ،‬كمخبر‪،‬‬          ‫بارد‪ ،‬لم يكن يقصد بخروجه التر ّيض مشيًا‪ ،‬أو‬
 ‫مراقبًا الداخلين والخارجين‪ ،‬الجالسين والواقفين‪،‬‬       ‫هر ًبا من وحشة الصمت في بيته‪ .‬كان في حقيقة‬
‫المتكلمين والصامتين‪ ،‬والفرحين والحزانى‪ .‬العينان‬        ‫الأمر‪ ،‬رغم برودة الطقس‪ ،‬خار ًجا لاصطياد‪ ،‬أو‬
 ‫ترصدان وتراقبان كعدستي آلة تصوير‪ .‬والأذنان‬
   ‫منتصبتان متأهبتان‪ ،‬تنصتان لكل الأصوات‪ ،‬ما‬             ‫لتس ّول فكرة‪ ،‬تنفع أن تكون ق ّصة تستحق أن‬
    ‫علا منها وما انخفض‪ .‬وينشغل الذه ُن بتركيب‬                                               ‫يكتبها‪.‬‬
   ‫الصور والأصوات في لوحات متعددة‪ .‬والذاكرة‬
 ‫تسجل‪ .‬والقلب يتح َّول إلى آلة استقبال لذلك المزيج‬   ‫كان يبح ُث عن فكرة صغيرة‪ ،‬تستف ُّز ما ظل متق ًدا‪،‬‬
 ‫الغريب كله‪ ،‬ثم يح ِّوله إلى آلة أخرى‪ ،‬في قسم آخر‬     ‫تحت رماد همومه‪ ،‬من جمر خياله‪ .‬هذا الهاج ُس‪،‬‬
   ‫منه‪ ،‬تقوم بخلط تلك العناصر المختلفة‪ ،‬وتحيلها‬     ‫تحدي ًدا‪ ،‬يجعله‪ ،‬في أغلب الأحايين‪ ،‬يعتقد بأن تأليف‬
      ‫إلى مزيج جديد يختلف عن مجموع ما ُوضع‬          ‫القصص والتس ُّول‪ ،‬ربما تجمعهما طبيعة مشتركة‪،‬‬
   ‫و ُحشر من كلام وضحك‪ ،‬وصمت وحزن وفرح‬
    ‫وبكاء‪ ،‬ورداءة طقس‪ ،‬وغم ٍز ولم ٍز‪ ،‬ومرارة قهوة‬       ‫لكنهما‪ ،‬بالتأكيد‪ ،‬يختلفان في الهدف‪ .‬فالمتس ِّو ُل‬
     ‫وسجائر‪ ،‬وضجيج‪ .‬عندها ينهض مؤلف هذه‬               ‫يجو ُب الشوارع ُمجاه ًرا بطلبه‪ُ ،‬مرد ًدا‪ :‬صدقة لله‬
‫الق ّصة عن كرسيه مغاد ًرا المقهى‪ ،‬ويعود أدراجه إلى‬  ‫يامحسنين‪ .‬بينما المؤل ُف يجو ُب الشوار َع مثله‪ ،‬لكنه‬
  ‫بيته‪ .‬وهناك‪ ،‬يجلس على كرسي إلى مكتبه‪ ،‬ويفتح‬         ‫بد ًل من المجاهرة بما يريد‪ ،‬يفض ُل التلص َص‪ ،‬من‬
 ‫النوافذ أمام عصافير خياله لتطير في فضاء مفتوح‬       ‫مسافة‪ ،‬كصيَّاد‪ ،‬ومكتفيًا بمراقبة فريسته‪ ،‬وتح ُّين‬
    ‫على البوح‪ ،‬مرفرفة بأجنحتها على هيئة حروف‬
‫وكلمات‪ ،‬تتشكل كقطعة نسيج تتمدد‪ ،‬لتكون برا ًحا‬                                               ‫لحظته‪.‬‬
 ‫فسي ًحا وكافيًا لتنبثق فوقه الحكاية‪ ،‬حسب الحالة‪:‬‬        ‫خط ُة مؤلف هذه الق َّصة‪ ،‬ذلك النهار الكوفيدي‬
‫باسترخاء أو بتوتر‪ .‬وتسري حرارة جسدها الفتيّة‬             ‫المضجر‪ ،‬لا تختلف عن غيرها من الخطط التي‬

                          ‫الطر َّية في كل الأرجاء‪.‬‬         ‫ص َّممها‪ ،‬ونفذها بنجاح نسبي‪ ،‬في غيره من‬
        ‫مؤلف هذه القصة‪ ،‬اختارعم ًدا‪ ،‬تشبيه حاله‬          ‫الأيام‪ ،‬قبل حلول «كوفيد» بالأرض‪ .‬وهي‪ ،‬أن‬
     ‫بمتسول‪ ،‬رغ ًما عن إدراكه ووعيه بأن حاله في‬
                                                        ‫يغادر بيته‪ ،‬وأن يطلق لقدميه العنان لتقوداه في‬

                                                        ‫مختلف الشوارع‪ ،‬حتى يصيبهما التعب‪ ،‬وحتى‬

                                                         ‫يحس بمسامات بدنه تتعرق‪ ،‬ثم يختار بعدها‬
                                                       ‫الاستراحة في مقهى‪ ،‬أي مقهى‪ .‬الخط ُة تقتضي‪،‬‬

                                                       ‫أي ًضا‪ ،‬أن ينتحي منضدة جانبية‪ ،‬ويقضي بعض‬
   75   76   77   78   79   80   81   82   83   84   85