Page 82 - merit 39 feb 2022
P. 82
العـدد 38 80
فبراير ٢٠٢2
أمامه سوى التسليم ،والركون هو ،أي ًضا ،إلى في الحياة ،وأكثر شهية وشهوة لممارسة الحب،
الجلوس على أريكة في غرفة المعيشة ،والتدخين، وأفضل رفقة ،وأشهى طع ًما.
ومتابعة الأخبار في التلفاز .كانت أخبار انتشار
الفيروس مستحوذة على كل النشرات والبرامج في بدا المقهى ،حين دخله ،خاليًا من الرواد ،ومن
الحياة .وأوعز مؤل ُف هذه القصة ذلك إلى خوف
أغلب القنوات. الناس من الإصابة بفيروس «كوفيد» ،وتفضيلهم
َع َّن له خاط ٌر شقي :ماذا لو هاتف المرأة متظاه ًرا تج ُّنب الزحام والبقاء في منازلهم .عقب انتهائه من
احتساء فنجان قهوته ،وتدخين سيجارته ،قرر،
بانه الرجل الأربعيني الذي التقته في الحافلة؟ رغم بعد المسافة نسبيًّا ،العودة مشيًا على قدميه إلى
ابتسم لعلمه أن اللعب المتسم بالشقاوة ليس من
طبيعة المرحلة العمرية التي يعيشها ،ولا يليق به. بيته.
إلا أن الفكرة ظلت تزداد التصا ًقا في ذهنه ،وترفض في منتصف المسافة ،تقريبًا ،إلى بيته ،اختار التوقف،
بعناد الانصراف مبتعدة عنه .أخي ًرا ،استسلم لها،
وأخرج هاتفه ،وبحث عن رقم هاتف المرأة ،ونقره. والجلوس على مقعد شاغر ،في حديقة عامة ،على
سمع صو ًتا أنثو ًّيا هاد ًئا ،وسل ًسا ،وعذ ًبا متسائ ًل جانب من الطريق ،مفتوحة على مساحة خضراء
عمن يكون .تردد قلي ًل ،ثم تماسك مجيبًا بتذكيرها واسعة ،محاطة بأشجار باسقة ،وارفة الأغصان،
بأنه الرجل الذي التقته ،اليوم ،في الحافلة .صمتت تناثر في أرجائها أنا ٌس قلائل ،بعضهم يمارسون
المرأة للحظة ،بدت له وكأنها ده ًرا ،ثم قالت بصوت
الرياضة ،وآخرون جاءوا لأداء واجب مرافقة
هاديء وسلس وعذب ،بأنه مخطيء ،وأنها لا كلابهم ،ومنحها فرصة للتر ُّيض ،وللعب ،ولقضاء
تعرفه ،ولم تلتق به ،ولم تغادر بيتها مطل ًقا هذا الحاجة .أخرج جهاز هاتفه النقال وتلهى بمتابعة
اليوم .اعتذر بأدب ،وتمنَّى لها مساء طيبًا ،و َه َّم أخبار أصدقاء صفحته على الفيسبوك ،حين فجأة،
بإنهاء المكالمة ،لكنَّه توقف عن فعل ذلك ،لأن صو ًتا
أنثو ًّيا هاد ًئا ،وسل ًسا ،وعذ ًبا ،تمنَّى له بالمقابل ومن دون مقدمات ،وجد نفسه يستعيد المشهد
مسا ًء طيبًا ،وعار ًضا اللقاء غ ًدا ،إن سمحت ظروفه الأخير ،في الحافلة :المرأة وهي ته ُّم بالمغادرة ،وتملي
ووقته ،ومقتر ًحا المكان والزمان!! رقم هاتفها على الرجل الأربعيني .أعاد المشهد
قبل أن يشرع مؤلف هذه القصة في كتابتها، في ذاكرته كشريط فيديو ،م َّرة تلو أخرى .وتابع
أعاد التفكير بتم ُّعن فيما حدث أمامه في الحافلة، الأرقام تتاب ًعا سري ًعا ،وبوضوح ،من بين شفتي
وما حدث له بعدها في الحديقة ،وما دار هاتفيًّا المرأة .الغريب ،أنه شعر وكأن المشهد يحدث أمامه
من حديث مع امرأة بصوت هادىء ،وسلس، للتو .العجيب ،أن ذاكرته ،رغم ما اعتراها من وهن،
وعذب .وتساءل بينه وبين نفسه إن كان ،في اللقاء احتفظت برقم هاتف المرأة ،غير منقوص .تساءل
المرتقب ،سيحكي للمرأة عن كل ما م َّر به وصادفه في نفسه عما إذا ذلك يعود إلى ما تع َّود عليه من
من أحداث خلال العشرين سنة الأخيرة ،أم أنه مكر ذاكرته ،أم أنه من ألاعيب القدر؟ س ّجل الرقم
سيجلس مكتفيًا بالاستماع إليها وهي تق ُّص عليه في هاتفه ،وحفظه تحت اسم رقم الحافلة ،ونهض
ما حدث لها بعد أن تركته ،فجأة ،ذلك اليوم البعيد،
وف َّرت هاربة مع رجل آخر ،مختفية من حياته ،من لمواصلة سيره إلى بيته.
دون إبداء أسباب ،أو حتى تلويحة يتيمة من يدها مساء ذلك اليوم «الكوفيدي» ،ازداد الطقس رداءة،
واعترى مؤلف هذه القصة ،في بيته ،قل ٌق بعد فشل
بوداع.
محاولاته العديدة لكتابة قصة ،أو حكاية تم ِّكنه
من الانفلات من قبضة ما يسكنه من توتر .كان
كلما فتح النوافذ ،أمام طيور خياله ،كالعادة ،لتطير
مرفرفة متشكلة في حروف وكلمات وصور ،يواجه
بعنادها ،وانعدام رغبتها في الانفلات والانطلاق
والطيران ،والإصرار على الركون في مكانها ،مفضلة
الكسل والاسترخاء .ولم يجد مؤلف هذه القصة