Page 86 - merit 39 feb 2022
P. 86

‫العـدد ‪38‬‬   ‫‪84‬‬

                                                           ‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫محمد المصراتي‬

‫(ليبيا)‬

‫موت محمد‬

 ‫الناس إلى الحج‪ .‬جدتي قالتها بالحرف الواحد‪ ،‬إنها‬             ‫صعق ُت حين سمعت أن الرسول مات‪ .‬ابن عم أبي‪،‬‬
   ‫تريدني أن أكبر وآخذها إلى الح ِّج لملاقاة أشرف‬               ‫حسين‪ ،‬والذي كان يكبرني ببضعة سنوات‪ ،‬هو‬
     ‫الأنبياء والمرسلين‪ .‬لك َّن أح ًدا لا يقابل الموتى يا‬
                                                             ‫من أخبرني الحقيقة التي لم أصدقها ونحن نشوي‬
‫جدتي‪ ،‬هذا ما لن تعرفيه‪ ،‬وستموتين أن ِت أي ًضا ولن‬           ‫حمامة اصطدناها قبل قليل‪ ،‬وطلب حسين من عابر‬
   ‫تعودي حتى في أحلامي‪ .‬لكنني على الاقل حظي ُت‬              ‫سبيل في طريقه لصلاة الجمعة أن يذبحها لنا‪ .‬رحب‬
     ‫بشرف مصارحتك في موضوع موت الرسول‪،‬‬
                                                               ‫الرجل الغريب بالأمر‪ ،‬ولكن سرعان ما ندم حين‬
‫واجهتك بالحقيقة المُ َّرة‪ ،‬وكنت على أمل أن ِك لم تعلمي‬     ‫لطخ الدم ُك َّم قميصه الأبيض النظيف واضطر للعودة‬
   ‫بعد وأنه س ُيغمى علي ِك‪ ،‬أو على الأقل تنظرين إل َّي‬
  ‫بعينين دامعتين خائفتين ومدركتين أن لحظة فتح‬               ‫من حيث جاء‪ ،‬دون أن ينبس بكلمة‪ ،‬ودون أن ينظر‬
                                                            ‫في عيوننا‪ ،‬ودون أن يذهب إلى الصلاة‪ .‬لا أدري كم‬
 ‫الموضوع والمصارحة بالحقيقة صار ضرور ًّيا‪ ،‬كما‬
‫في المسلسلات التي كن ِت تحبينها‪ ،‬وستقنعينني بأنك‬              ‫كان عمري وقتها‪ ،‬كنت دون العاشرة بكل تأكيد‪،‬‬
‫أرد ِت إخباري وكنت فقط تنتظرين اللحظة المناسبة‪.‬‬                ‫ولكن يستعصى عليَّ تحديد العمر الصحيح وهو‬
                                                             ‫ما يبدو غريبًا لشخص في حالتي؛ أعرف التفاصيل‬
                       ‫أي شيء يا جدتي‪ ..‬ولك َّن‬                 ‫الزمكانية لكل حدث في حياتي‪ ،‬وأس ِّمي الفترات‬
                     ‫جدتي ضحكت ومضت تع ُّد‬                      ‫بأعوامها‪ ،‬وربما صر ُت هكذا بسبب اكتئاب حل‬
                     ‫الغذاء‪ ،‬ومضي ُت خلفها لأع َّد‬             ‫بي فأعادني إلى الماضي بتفاصيله الدقيقة‪ ،‬وربما‬
                                                              ‫لأن التذكر من طبائع البشر منذ بعد الأزل بقليل‪،‬‬
                       ‫السلطة‪ .‬أمامي قطع خيار‬                 ‫وربما لأننا نعيش في زمن مشحون بالأنا والذاتية‬
                         ‫وطماطم وجزر‪ ،‬وبينهم‬               ‫المفرطة والهوية الفردية وغيرها من نتاجات الصحوة‬
                                                               ‫النيوليبرالية وحوليات العالم الذي لم يعد لنا‪ .‬أي‬
                     ‫سكين‪ ،‬وكل ما عليَّ فعله أن‬               ‫من هذه الأمور أقول‪ ،‬والمهم فيما أود كتابته الآن‪،‬‬
                      ‫أقطعها إلى أحجام متوسطة‬                ‫أن الرسول مات‪« ،‬ومن آمن بمحمد فقد مات‪ ،‬ومن‬
                       ‫وأرمي بها في هذا الصحن‬               ‫آمن بالله‪ ،‬فالله حي لا يموت»‪ ،‬هكذا أخبرني حسين‬
                                                           ‫وهو يضع قطع اللحم على النار‪ .‬وأنا منذ تلك اللحظة‬
                         ‫الأبيض الصغير‪ .‬لا أحد‬                 ‫صرت أحد الذين آمنوا بمحمد وارت ُّدوا عن الدين‬
                     ‫يأكل سلطتي إ َّل جدتي وأنا‪.‬‬             ‫بعد موته‪ .‬وكان السؤال الذي يطرح نفسه بنفسه‪،‬‬
                   ‫الآخرون يأكلون سلطة جدتي‬                    ‫هو كيف يكون رسو ًل ويموت؟ كيف أرسله الله‬
                                                               ‫ليموت بيننا ميتة طبيعية؟ كيف أقن َع الناس بأنه‬
                       ‫ويتناسون سلطتي‪ ،‬ولكن‬                  ‫رسول وبعدها مات؟ كنت أتخيله ما زال معتز ًل في‬
                   ‫جدتي تحب سلطتي وأنا كذلك‬                ‫غار حراء‪ ،‬بعد أن تقاعد عن الدعوة وتفرغ للتع ُّبد كل‬
                                                            ‫هذه السنين كما يليق بنبي حقيقي‪ ،‬وأنه لا يقابل إ َّل‬
                      ‫ولكن لا أحب سلطة جدتي‪،‬‬                ‫المسلمين الحقيقيين مثله‪ ،‬مرة في العام‪ ،‬ولهذا يذهب‬
                   ‫وجدتي كلما أكلت من سلطتي‬

                     ‫تنظر لي وتبتسم فأدرك أنها‬
                      ‫لا تحب سلطتي‪ ،‬ولكن هذا‬
                   ‫لوحده ليس كافيًا للتوقف عن‬
                       ‫المحاولة‪ ،‬وكل ما عليَّ فعله‬
   81   82   83   84   85   86   87   88   89   90   91