Page 92 - merit 39 feb 2022
P. 92

‫سناء درغموني‬   ‫ما جدوى أي شيء مع هذا الفراغ الروحي‬
                  ‫الهائل‪ ،‬مع هذه الحفرة السوداء التي‬

              ‫تبتلع كل رغبة في الحياة؟ لأيام كنت أظل‬
                 ‫بالبيت أتفرج على الأفلام وأنهض باكًرا‬
                ‫لأكتب‪ ،‬رغبتي تتناقص في كل شيء في‬
                 ‫الطعام والضحك والكلام والتعاطي مع‬
                 ‫غيري‪ ،‬يؤلمني حالي والحزن في عيوني‬
                ‫وفي ملامحي يتزايد‪ ،‬لا أخرج إلا قليًل‪ ،‬فلا‬
                ‫أحد يبحث عني أو يتذكر وجودي‪ ،‬الحرب‬
                        ‫تفاقم الأمر‪ ،‬والعالم يتكالب علينا‬

     ‫الجرجير والطماطم‪ ،‬وفي لفتة رقيقة‬                 ‫روسيا‪ ،‬التي أرفقتها بشعر روماني قديم يقول‪:‬‬
     ‫مست روحي‪ ،‬قامت بتغليف الطعام وكتبت في‬                               ‫نحن أمواج من ذات البحر‪.‬‬
  ‫بطاقة ألصقتها على الغلاف مايلي‪“ :‬أمي العزيزة‪..‬‬                                  ‫الناس يتحاربون‬
 ‫هذا بعض الغداء أتمنى أن يعجبك‪ ،‬يجب أن تأكليه‬
  ‫كله ولا تخافيه‪ ،‬حضرته بنظافة وغسلت يدي كل‬                            ‫“نحن أمواج من ذات البحر”‬
                                                    ‫أتذكر أنني كتبت ن ًّصا اقتبست فيه كلمة أمواج من‬
                                  ‫عشرة دقائق»‪.‬‬
    ‫عندما قرأتها ضعفت وفرحت وبكيت وخفت أن‬              ‫ذات البحر لما تحويه من تعاضد إنساني عميق‪.‬‬
‫نتركهما وحيدين‪ .‬في اليوم التالي كنت قد استجمعت‬           ‫أيضا كتبت الكثير من النصوص التي رافقت‬
                                                         ‫انتشار الوباء والخوف من تفاقمه في بلادنا‪،‬‬
                          ‫قواي وغادرت السرير‪.‬‬
    ‫كان الشعر يرافقني في كل مراحل حياتي‪ ،‬كنت‬          ‫وكأم لطفلين أي ًضا كنت حريصة حد الوسوسة‪،‬‬
‫والشعر كما يقول جلال الدين الرومي‪“ :‬كشجرتين‬          ‫كل شيء يتعرض لوابل من المطهرات قبل دخوله‬
  ‫يمر الناس بيننا ولا يعرفون أن جذورنا تتعانق”‪.‬‬     ‫للبيت وبصرامة‪ ،‬قللنا الخروج والتفاعل مع الأهل‬
    ‫ولكن يظل في داخلي السؤال المستمر‪ :‬ما جدوى‬        ‫والأصدقاء‪ ،‬ولكن كل ذلك لم يمنع أصابة زوجي‬
   ‫أي شيء مع هذا الفراغ الروحي الهائل‪ ،‬مع هذه‬
    ‫الحفرة السوداء التي تبتلع كل رغبة في الحياة؟‬         ‫أولا ثم اصابتي‪ ،‬وهنا تبدأ مرحلة أخرى من‬
  ‫لأيام كنت أظل بالبيت أتفرج على الأفلام وأنهض‬       ‫الحذر بحيث لا ينتقل المرض إلى الصغار بالبيت‪،‬‬
‫باك ًرا لأكتب‪ ،‬رغبتي تتناقص في كل شيء في الطعام‬
‫والضحك والكلام والتعاطي مع غيري‪ ،‬يؤلمني حالي‬            ‫وبالطبع مرت أيام ‪-‬خصو ًصا الأولى‪ -‬لم أكن‬
   ‫والحزن في عيوني وفي ملامحي يتزايد‪ ،‬لا أخرج‬         ‫فيها قادرة على الحركة‪ ،‬فكانت ابنتي رؤيا‪ ،‬ذات‬
   ‫إلا قلي ًل‪ ،‬فلا أحد يبحث عني أو يتذكر وجودي‪،‬‬        ‫الثلاث عشرة سنة‪ ،‬تقوم بطبخ وجبات من تلك‬
     ‫الحرب تفاقم الأمر‪ ،‬والعالم يتكالب علينا‪ ،‬دول‬  ‫التي تستطيع طهوها لوحدها‪ ،‬فاجأتني يو ًما بوجبة‬
  ‫الجوار تنهش أموالنا‪ ،‬ودول الغرب تطيل من أمد‬        ‫صغيرة تفننت في طهوها تتضمن بطاطا مسلوقة‬
‫الحرب التي تغذيها بالسلاح والمرتزقة‪ ،‬وفي محافل‬     ‫وأخرى مقلية ومتبلة بالبهارات‪ ،‬مع كمية من سلطة‬
   87   88   89   90   91   92   93   94   95   96   97