Page 106 - merit 40 apr 2022
P. 106

‫العـدد ‪40‬‬   ‫‪104‬‬

                                                      ‫أبريل ‪٢٠٢2‬‬

  ‫صودر معظمها في عهد الخلافة الأولى‪ ،‬وبعد الثورة‬        ‫عن الحكم‪ .‬كونه يعمل في مزرعة‪ ،‬يعني أنه لن تتاح‬
 ‫التصحيحية وقيام خلافة الفقيهة جليلة منعت الكتب‬        ‫له أي فرصة ليخالف قوانين الدولة فيما يخص منع‬

    ‫كليًّا‪ ،‬إذ كان التقدم التكنولوجي يبرر منع طبع أو‬     ‫اختلاط الجنسين‪ ،‬إذ كانت المزارع خارج المدن ولا‬
    ‫استيراد أي كتاب‪ ،‬بحجة إمكانية قراءة الكتب على‬        ‫تصلها النساء‪ .‬كانت قوانين منع اختلاط الجنسين‬
    ‫شبكة الإنترنت التابعة للدولة‪ ،‬لذلك لم تتواجد أي‬      ‫تطبق بشدة‪ ،‬خاصة على رجال النخبة الذين كانت‬
   ‫كتب مطبوعة في البلاد‪ ،‬ومن تلك الكتب العتيقة لم‬
 ‫يبق سوى القليل‪ ،‬كان الناس يقرؤونها خفية وتحت‬              ‫تخشاهم هيئة الأمن الأخلاقي‪ ،‬كانت هذه الهيئة‬
‫مخاطرة كبيرة‪ .‬كانت أم عبد الباري تعرف أن زوجها‬            ‫تشكل الجزء الأكبر من مؤسسة الأمن في الدولة‪،‬‬
    ‫يقرأ الكتب خلسة ولكنها غضت الطرف عن ذلك‪،‬‬             ‫وكانت ُتستخدم كسلاح فعال من قبل الدولة لقمع‬
‫ساعدت مكانتها المميزة في الدولة على أن ُيترك زوجها‬       ‫أي اعتراضات ضد النظام أو أي مطالبة بحقوق لا‬
 ‫وشأنه‪ .‬لم يتعرض أبو عبد الباري للاعتقال أو حتى‬       ‫ترى الدولة في مصلحتها أن تمنحها لمواطنيها‪ .‬وجود‬
‫للمضايقات مثل غيره من ممتلكي الكتب الذين حوكم‬          ‫ابنها بعي ًدا عن أي مشكلة محتملة مع هيئة الأمن زاد‬
‫منهم الكثيرون وأعدموا عبر السنوات الماضية‪ .‬أخرج‬
‫عبد الباري قلما وورقة وكتب عليها‪« :‬لماذا أنت حزين‬                         ‫الفرحة في قلب أم عبد الباري‪.‬‬
 ‫وأنا قد أصبحت رجل نخبة؟» ثم سلم الورقة لوالده‪،‬‬       ‫في أول يوم من عمله أخذه الباص إلى المزرعة مرتد ًيا‬
     ‫كان عبد الباري يعرف أن والده لا يحب النقاش‬       ‫الخوذة طول الطريق‪ ،‬نزل عبد الباري من الحافلة مع‬
    ‫العلني في المواضيع الحساسة‪ ،‬إذ كان يخشى أن‬
     ‫ترصد الساعة الذكية على المعصم ما لا يريده أن‬        ‫رفاقه و ُسمح له أن يخلع خوذته‪ .‬رأى رفاقه لأول‬
                                                        ‫مرة‪ .‬وضع خوذته في صندوق مخصص لها‪ ،‬وعبر‬
                        ‫ُيرصد من قبل أمن الدولة‪.‬‬         ‫ساعته الذكية تلقى تعليمات العمل‪ .‬كلما كان ينجز‬
‫نظر إليه والده وكتب‪« :‬لأنك ُصنفت بنا ًء على وسامتك‬
‫وسماتك البدنية‪ ،‬وليس بنا ًء على عقلك»‪ .‬لم يرغب أبو‬        ‫عم ًل‪ ،‬كانت ساعته الذكية تسجل ذلك‪ ،‬وتحدد له‬
                                                      ‫الوقت المتبقي لإنجاز الباقي‪ .‬عند موعد الصلاة بدأت‬
   ‫عبد الباري في قول كل الحقيقة‪ .‬حقيقة أن ابنه لن‬     ‫الساعات الذكية تنقل الأذان‪ ،‬نهض الكل وقاموا لأداء‬
  ‫يختار شريكة حياته‪ ،‬وأنه سيكون مجرد آلة تلقيح‬        ‫الصلاة‪ ،‬بعد الصلاة وزعت وجبات الأكل‪ ،‬التي كانت‬

     ‫تتقاسمها نساء ذوات نفوذ‪ .‬لن يعيش معهن أي‬            ‫كافية لكل العمال‪ .‬أشارت الساعة الذكية إلى انتهاء‬
  ‫عواطف‪ ،‬لأن نساء السلطة لن يتعلقن به قط بسبب‬           ‫وقت الراحة وضرورة العودة إلى العمل‪ ،‬بعد انتهاء‬
  ‫تجاربهن الماضية مع الرجال قبل قيام الثورة‪ .‬كتب‬      ‫الدوام ارتدى عبد الباري خوذته وأوصلته الحافلة إلى‬

    ‫عبد الباري على الورقة‪« :‬ولكن زوجاتي سيدركن‬                                                 ‫البيت‪.‬‬
‫قدراتي العقلية‪ ،‬وسيتعلقن بي أكثر عندما يعرفن أنني‬     ‫استقبلته أمه فرحة بنجاحه في أول يوم عمل‪ ،‬إذ نقلت‬
                                                      ‫إليها ساعته الذكية المعلومات عن كمية إنجازاته كونها‬
   ‫لست مجرد شاب وسيم خاوي الدماغ»‪ .‬أراد أبوه‬
 ‫أن يكتب له‪« :‬وبماذا ستملأ عقلك؟ إن كنت قد تركت‬            ‫ولية أمره‪ .‬حاول عبد الباري أن يرى فرحة أبيه‬
                                                      ‫ولكنه لم ير أي تغيير في ملامحه‪ ،‬بل على العكس‪ ،‬بعد‬
   ‫المدرسة ولم تقرأ كتا ًبا في حياتك غير ما تسمح به‬
   ‫شبكة إنترنت الدولة؟» لكنه لم يفعل‪ ،‬كتب بد ًل من‬       ‫أن تلقى خبر بلوغ ابنه ظهرت عليه علامات الكآبة‬
 ‫ذلك تمنيات عامة بالتوفيق والنجاح على الورقة التي‬       ‫التي ‪-‬بالرغم من محاولته إخفاءها‪ -‬كانت واضحة‬
                                                       ‫لعبد الباري‪ ،‬الذي كان يعرف التكوين العاطفي لأبيه‬
                          ‫أتلفها بعد أن قرأها ابنه‪.‬‬
  ‫هكذا مرت الأيام في حياة عبد الباري الجديدة‪ .‬كان‬                                               ‫جي ًدا‪.‬‬
                                                      ‫في المساء دخل عبد الباري إلى غرفة أبيه ليتحدث معه‬
    ‫العمل يسير إلى حد الملل‪ ،‬وفي يوم من الأيام‪ ،‬بعد‬    ‫قلي ًل‪ ،‬كان أبوه منهم ًكا في قراءة كتاب عتيق مهترئ‪،‬‬
  ‫أن صار يعمل على هذا النمط‪ ،‬تع َّرف في المزرعة على‬
‫رجل اسمه سعيد‪ .‬استغرب عبد الباري من هذا الاسم‬            ‫أغلقه وخبأه حالما دخل عبد الباري‪ ،‬لم يسأل الولد‬
  ‫العجيب‪ ،‬إذ كانت الدولة لا تحث على أسماء للرجال‬         ‫أباه عن نوع الكتاب‪ ،‬إذ كان يعرف أنه من الممنوع‬

                                                            ‫قراءة الكتب إن كانت مطبوعة بغض النظر عن‬
                                                        ‫محتواها‪ .‬كانت الكتب التي يراها النظام مخالفة قد‬
   101   102   103   104   105   106   107   108   109   110   111