Page 110 - merit 40 apr 2022
P. 110
العـدد 40 108
أبريل ٢٠٢2
إياد حسن
(سورية -النمسا)
معزوفة الليل الصباحية
الآخرين بلمح ٍة خاطف ٍة مطمئنًا نفسه أنه بخي ٍر. مغمض العينين يرفع إصب ًعا متثاق ًل بالكاد يلامس
صو ٌت حا ٌد ينبعث من مكبرات الصوت يعلن موضع إيقاف المنبه ،إنها السادسة صبا ًحا ،ما زال
وصول القطار إلى المحطة .صو ٌت يجعل الوجوه الأولاد نائمين ويجب ألا يقوم بأي حرك ٍة تخرب
المبعثرة تصطف بشك ٍل مخروطي عند أبواب القطار عليهم متعة النجع الأخير من النوم .خلال نصف
ساع ٍة يكون الجسد التمثال قد اكتسى حلة الشتاء
السريع .وما إن تفرغ المحطة من مريديها حتى وتسمر في محطة القطار القريبة التي تطل نافذته
يغلق القطار أبوابه منطل ًقا إلى فيينا ،في الجنب
الأيسر على امتداد الطريق يحاذيه نهر الدانوب على أسوارها .وجنتاه تميلان إلى اللون الأحمر
وعلى الجنب الأيسر تجاوره الأشجار المتراكبة القاني من لسع برودة نسمات الصباح.
لجبل كالين بيرغ ،أول جب ٍل من سلسلة جبال
الألب .ما إن يحظى بمقعده حتى يغرز السماعات يأخذ مكان وقوفه المعتاد ،يتفقد الوجوه التي
في جوف أذنيه ،فالألحان التي يعشقها منذ الصغر اعتاد على رؤية أطيافها رغم أن مسامير النسمات
تضبط ايقاعه الداخلي قبل وصوله باب غرفة العمل. المتجمدة تضرب أدمة العينين المفتوحتين النازفتين
الموسيقا الصباحية في الإذاعات المحلية تبث عبر
أثيرها مقطوعا ٍت لموزارت أو لشتراوس ،صاحب حد الوجع .ساع ٌة أو أكثر هي المسافة بين باب
«الدانوب الأزرق» ،وهي بكل تأكيد ليست على البيت وباب غرفة عمله ،يرضى بها كمسافة أما ٍن
مزاجه .في أي وق ٍت كان ،صبا ًحا أم مسا ًء ،لا تطربه يذللها تدريجيًّا ليتهيأ للانتقال من حالة رب المنزل
حد النشوة إلا الأغاني التقليدية لعمالقة الطرب إلى حالة اللحم المكوم أمام شاش ٍة زرقاء .ثم ساع ٌة
مماثلة عند العودة ،تهدئ ثوانيها ذوائبه العصبية
العربي.
ليلة الأمس كانت ليل ًة طويل ًة ،فبعد أن فرغ من المضطربة.
متابعة دروس أبنائه واللعب معهم ،أنساه موضوع لا يهوى وسائل النقل الخاصة ،فهو معتا ًد منذ
الكتاب الذي بين يديه أن الساعة أصبحت الثانية الصغر أن يغفو على أي مقع ٍد متنق ٍل .إنها السادسة
بعد منتصف الليل وقد مضى وقت النوم على حين وخم ٌس وثلاثون دقيق ًة بتوقيت ذروة الشتاء،
سهو ٍة .وهكذا فإن ساعات الصباح صارت امتدا ًدا
العتمة الكالحة والضباب المجمد لا يسمحان
-بأحسن الأحوال -أن يرى أبعد من مترين من
ذروة أنفه .كل الوجوه المعتادة حاضر ٌة ،وكل يتفقد