Page 70 - ميريت الثقافية- العدد (29) مايو 2021
P. 70

‫العـدد ‪29‬‬  ‫‪68‬‬

                                                   ‫مايو ‪٢٠٢1‬‬

‫يحيى الشيخ‬

‫(العراق)‬

‫الحائك‬

  ‫وضع الدمية في ركن الغرفة على كرسي وثير من‬        ‫تنبّه الرجل إلى حاله‪ ،‬إذ لم يعد هناك ما يشغله‪ ،‬تنبّه‬
    ‫العهد الفيكتوري كان قد التقطه من المهملات في‬     ‫إلى أنه لم يتكلم منذ سنوات‪ ،‬وعندما حاول الكلام‬
    ‫الشارع‪ ،‬وجلس قبالتها يتأمل ما صنعت يداه‪..‬‬         ‫من جديد‪ ،‬تعثرت الكلمات في فمه وانطفأ صوته‪،‬‬
                                                    ‫فخشى على نفسه من الخرس وفقدان نعمة الكلام‬
‫تنبّه إلى خيط صغير يتدلى من فمها‪ ،‬فسحبه برفق‪،‬‬        ‫والثرثرة وتقليد أصوات الطيور والحيوانات الذي‬
‫فطفق الغزل ينسل ويصدر صو ًتا؛ صوت من داخل‬                     ‫يجيده كما لو كان صدره قفص طيور‪.‬‬
                                                      ‫لكنه تنبّه إلى غياب من يتكلم معه ويتعاطى نعمة‬
   ‫الدمية‪ ،‬من نسيجها الباطني‪ ،‬من أعماقها الملبدة‪.‬‬   ‫الحوار‪ ،‬فاجتهد في توظيف خياله الخارق وقدراته‬
     ‫سمعه الرجل بوضوح وأخذ يضحك ويحمحم‬                 ‫العملية لإنجاز مخلوق يحاوره متى شاء وربما‬
     ‫ويتناغم معه والدمية تهت ُّز مجرورة من فمها‪،‬‬
     ‫تتراقص وتكاد تسقط من مكانها وهو يواصل‬         ‫يغني له إذا لزم الامر‪ .‬عكف لأيام طويلة على حياكة‬
                                                     ‫دمية بحجم الإنسان من خيوط ملونة؛ دمية أنيقة‬
  ‫سحب الخيط‪ ،‬والحال أن الفم اتسع وأصبح هوة‬             ‫أحبها أن تكون بدينة تملأ أمامه المكان‪ ،‬فالبدانة‬
    ‫وتضاعف الصوت‪ ،‬وواصل الرجل عمله بحمية‬
     ‫شديدة‪ ،‬فاختفى الفم‪ ،‬ثم الوجه‪ ،‬ثم الرأس‪ ،‬ثم‬    ‫كما يرى ترف ونعومة ونعمة فائضة‪ .‬كللها بالورد‬
                                                     ‫وزخرفها بالخرز البراقة وضفر لها جدائل طويلة‬
                ‫الضفائر‪ ،‬حتى تفككت الدمية كليًّا‪.‬‬   ‫كحبال السفن العريقة‪ .‬رسم لها عينين خضراوين‬
      ‫كف الرجل عن الضحك وانشغل يفل الخيوط‬          ‫واسعتين‪ ،‬وأن ًفا أخنس‪ ،‬وفتح بالمقص فتحة صغيرة‬
     ‫المتشابكة الملفوفة عليه‪ ،‬ويكببها حسب ألوانها‬  ‫مثل حبة فستق مفلوقة بمثابة فم‪ ،‬وصبغه بالأحمر‬
    ‫ويفكر بدمية أكبر منها لا تتفكك بسرعة‪ .‬وتنبّه‬    ‫القاني وبإتقان شديد (الرجل يعذبه ضعف الإتقان‬
 ‫أي ًضا (الرجل ذو انتباه حاذق) إلى أن الخيوط لديه‬   ‫في الأشياء‪ ،‬فيسعى إليه حتى لو كلفه الأمر قضاء‬
  ‫غير كافية لمشروعة الوجودي؛ فقرر شراء بالات‬
                                                                            ‫أيام بلا نوم ولا طعام)‪.‬‬
              ‫من الغزل تكفي لحياكة أُم ًة بأسرها‪.‬‬
   65   66   67   68   69   70   71   72   73   74   75