Page 72 - ميريت الثقافية- العدد (29) مايو 2021
P. 72

‫العـدد ‪29‬‬  ‫‪70‬‬

                                                    ‫مايو ‪٢٠٢1‬‬

‫ناصر الحلواني‬

‫نافذة‬

   ‫المواسم كلها‪ ،‬ونوافذ قصره المائة‪ ،‬التي تطل على‬   ‫يذكرون أن هذا الشارع الصغير‪ ،‬والحارات المتفرعة‬
                            ‫جميع جهات الأرض‪.‬‬            ‫عنه‪ ،‬والحي المحيط بأكمله‪ ،‬كان جز ًءا من حديقة‬

   ‫نافذة بعينها‪ ،‬دو ًما‪ ،‬يرنو تجاهها‪ ،‬تطل على جهة‬   ‫هائلة تحيط بقصر رائع‪ ،‬كان يسكنه ملك‪ ،‬وزوجاته‪،‬‬
 ‫الشمس الغاربة‪ ،‬يرسم جانبًا ستارتها قو ًسا مدببًا‬      ‫وأولاده الأمراء‪ ،‬وابنة وحيدة‪ ،‬أنجبتها أمها وهي‬
‫من فراغ‪ ،‬في الأعلى‪ ،‬يسمح للنور بالنفاذ إلى الداخل‪،‬‬    ‫في السادسة عشرة من عمرها‪ ،‬ثم ماتت‪ ،‬وتركتها‬

   ‫ويلتم جنباها‪ ،‬عند الوسط‪ ،‬برباط مضفور ناعم‪،‬‬       ‫وحيدة في قلب تلك المملكة‪ ،‬ويحكون أنها كادت تلحق‬
                        ‫بلون حبة ر َّمان ناضجة‪.‬‬                      ‫بأمها‪ ،‬قبلما تقبل أثداء المرضعات‪.‬‬

     ‫كان يمكنه رؤية انعكاسات الشمس على فتائل‬            ‫مات الملك‪ ،‬وتفرقت الزوجات‪ ،‬وهاجر الأمراء إلى‬
 ‫الرباط القرمزي القديمة‪ ،‬وعلى الخيوط الدقيقة من‬       ‫غربتهم‪ ،‬أما الصبية‪ ،‬التي با َد ُمل ُكها‪ ،‬فلا يذكر أحد‬
‫الذهب الخالص‪ ،‬التي تمر مثل شريان ضوء‪ ،‬يحيط‬
                                                                                          ‫عنها شيئًا‪.‬‬
   ‫بحنو بقماش الستارة العتيقة‪ ،‬ذات اللون الغائم‪،‬‬          ‫بقي القصر‪ ،‬يمر به الناس الذين ظلوا لأزمان‬
‫خلف زجاج النافذة الشاهق‪ ،‬القادر‪ ،‬حتى الآن‪ ،‬على‬
                                                            ‫يتذكرون أهله وأيامه‪ ،‬يتحاكون فيما بينهم‪،‬‬
    ‫أن يعكس ما يمر في فضائه الشفيف من سحب‬                   ‫ويحكون لعيالهم عنه‪ .‬يغوص به الزمان في‬
                                  ‫عابرة وطيور‪.‬‬       ‫شيخوختهم‪ ،‬ويتماهى في ذاكرتهم الدنيا‪ ،‬فما عادوا‬
                                                       ‫يرونه في غدوهم ورواحهم‪ ،‬بينما يمر به الأطفال‬
‫وعند الغروب‪ ،‬كانت الشمس المزهوة ببرتقالية آخر‬       ‫بذاكرتهم النشطة‪ ،‬وخيالات تحفزها حكايات سردها‬
   ‫اليوم‪ ،‬تحيل النافذة إلى لوحة يمتزج في ترابيعها‬        ‫عليهم من غابوا‪ ،‬فظلوا يرونه قص ًرا مسحو ًرا‪،‬‬
                                                      ‫يخشون المرور به في الليالي الحالكة‪ ،‬أو حين ترعد‬
‫الملكية لون غروب راحل‪ ،‬ورمادية أول ليل‪ ،‬وخلفية‬
  ‫من فراغات أرابيسك‪ ،‬تصور أزها ًرا وطيو ًرا‪ ،‬على‬                                             ‫السماء‪.‬‬
      ‫دانتيللا الحجاب الوردي‪ ،‬المنسدل بين جانبي‬       ‫بينهم كان صبي‪ ،‬يحفظ حواديت أمه عن هذا الملك‬
                               ‫الستارة البيضاء‪.‬‬      ‫الذي كان‪ ،‬عن أسوار قصره التي تمتد لمسيرة يوم‪،‬‬
        ‫وخلف النقوش الدقيقة‪ ،‬التي تصور طيو ًرا‬
  ‫أسطورية‪ ،‬ذات أجنحة حريرية‪ ،‬كان يرى أطراف‬               ‫حدائقه التي ُتثمر أشجارها كل ما خلق الله من‬
    ‫أصابع منمنمة‪ ،‬تمسك بطرف الستارة الوردية‪،‬‬            ‫ثمار‪ ،‬و ِطي ِب ريحها التي ُتع ِّطر الدروب المحيطة‪،‬‬
                                                      ‫وبيوت الناس من حوله‪ ،‬عن طيوره الملونة بألوان‬
‫الرهيفة كالزجاج‪ ،‬ولا يحركها هواء‪ ،‬وبطرف عينها‪،‬‬
   67   68   69   70   71   72   73   74   75   76   77