Page 76 - ميريت الثقافية- العدد (29) مايو 2021
P. 76
العـدد 29 74
مايو ٢٠٢1
غادة العبسي
ما بين ال َحو َض ْين
هذه التهمة كليَّة. حو ٌض زجاجي يشبه في حجمه أول وآخر حوض سمك
وحم ُت فيها أي ًضا على ال ِحبر المبلَّل ،على الأحرف اشتراه لنا أبي ،ولم أكن قد أكملت الثالثة من عمري بع ُد،
والكلمات ،وكأ َّن أقداري المكتوبة لم يجف حب ُرها بعد،
اختلاط دمي بدمها ومائي بمائها جعل لتاريخي رائحة حو ٌض لا تسبح فيه سمكتان برتقاليتان شائعتان ،ولا
طازجة في أنفي ،كالطلاء الجديد ،لدرج ِة أنني طمع ُت السمكة السوداء التي باتت ُتلصق فمها بالجدار الزجاجي
في فرص ٍة أخرى؛ فرصة لمحو ما فات مما يسوؤني
تذكاره ،فلربما محا ماؤها الطاهر خطاياي! كانت هي وتخيفنا ،بل هو حو ٌض تسبح فيه ابنتي الوحيدة ،دون
شغلي الشاغل ،أستعيض بركلاتها الحانية عن طقطقة صحبة أو مؤانسة من إن ٍس ولا غيرهم من مخلوقات الله،
مفاتيح الحاسوب أثناء الكتابة :الطقطقة المحببة إلى نفسي
مثل طقطقة الذرة المنعشة لقلوب الأطفال ،أمام ماكينات حو ٌض مغل ٌق ،لا نقدر أن نلقي فيه طعا ًما من أعلى للسمك،
فننثره بأناملنا ونراقب هبوطه البطيء في الماء حتى تلتقطه
الفشار.
الحائ ُل الأخضر عصمهم من حزني العميق عندما سمع ُت السمكات الجائعات ،ذلك الحوض تحدي ًدا لا يحتوي على
بكاءها الرقيق الآخذ في التلاشي وهم يهرعون بها خارج أطعمة ولا أشربة ،ولا حتى مثل بقية الر َّضع حديثي
غرفة العمليات إلى الح َّضانة ،أرتعد وأسناني تصطك الولادة الذين سيأتون تبا ًعا بعدها لنفس المكان ،ف ُيط َعمون
ببعضها البعض ،وطبيبي يعتصر لحمي ليفر َغ حمولته لبنًا طيبًا من أثداء أمهاتهم عندما تسمح حالاتهم المرضية،
قبل أن يغل َقه على أشياء نسيها بالداخل لا ُترى بالعين أو من الألبان الاصطناعية المتوفرة ،لا تقدر ابنتي « ِسدرة»
المجردة ،مثل بصمات أصابعها الصغيرة ،همهماتها حتى على بلع الماء المُق َّطر.
فور أصبحت حنجرتها جاهزة للاستعمال وهي تج ِّرب حو ٌض مرتك ٌن إلى زاوي ٍة في اليسار ،وضعوها به قبل أن
صوتها للمرة الأولى في ظلمة رحمي ،دهشة عينيها عندما أراها أو ألمس وجهها أو حتى أُرضعها ..بعد انتزاعها من
س ِمع ْته بأذنيها ،ابتسامها كلما سمعت صوت أبيها مناد ًيا
أحشائي ،عكف الطبيب وقتها على تفريغ رحمي من مائه
إياها عبر جدار بطني ،ومصافحتها له بمد قبضتها ودمائه ،حائ ٌل أخضر معلَّ ٌق أمام عين َّي ،يحجبني عن العالم،
الصغيرة من خلالي.
يعصمني من رؤية أسلحتهم التي أجهزوا بها على بطني
يا إلهي ،قبضتها الصغيرة!
كانت تم ُّدها بوه ٍن شعر ُت به يشتد على مدار الشهور المنتفخ والذي يفوق بطون قريناتي ال َح َبالى ربما بسبعة
الأخيرة من الحمل ،كالموشك على الغرقِ ،ب ُّت ألصق يدي أضعافَ ،لكم سمعتهن يهمسن بأني ربما أخبئ بداخله
بكفها المضمومة وأغني لها حتى تنام ،أيقن ُت أنها ليست
على ما يرام ،ليست تلك قوتها ولا حركتها الدءوبة من توء ًما أو أكثر ،ولكم قرأ ُت الحرمان في عيونهن ،في الشوارع
والمحلات والمقاهي ،وكن ُت لا إراد ًّيا أض ُّم بطني بيدي خشية
قبل! أذى العيون الرامقة ،كان ذلك بالطبع قبل أن أستوعب أنني
بالطبع لم أشعر بوجع ،ولكن شعر ُت بهم يهزونني
بعنف ،يعصفون بي ،رغم هدأة حديثهم الواثق من كل بالفعل غير قادرة على المشي ،أو النوم ،أو حتى التنفس
ب ُعمق بسبب حجم رحمي غير الطبيعي ،الأمر الذي حيَّر
الطبيب وجعله مرتا ًبا ف َّي ظا ًّنا أني آكل الحلوى والبيتزا
والمعكرونة بالصوص الأبيض وعيش الغراب دون حساب،
في الحقيقة كن ُت أحب الآيس كريم والشوكولا ،وحسب ُت
مرا ًرا أن جنينتي تشتاقهما ،ولكن أي ًضا كانا بريئين من