Page 79 - ميريت الثقافية- العدد (29) مايو 2021
P. 79

‫‪77‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

 ‫الحوضين؛ حوضي الذي احتوا ِك والحوض الذي تنامين‬
                                       ‫فيه الآن‪..‬‬

         ‫ما فائدة رجليَّ إن لم أ ِس ْر بهما إلي ِك يا سدرة؟‬
    ‫أكاد أسقط من يد الممرضة‪ ،‬تضعني في سريري بعد‬

      ‫إعطائي المس ِّكن‪ ،‬أمي تنظر إلى دموعي المنهمرة بلا‬
      ‫انقطاع‪ ،‬بعج ٍز يشبه عجزي أمام ما يحدث لابنتي!‬
‫أول ليلة يا «سدرة» تنامين فيها خارج رحم أمك‪ ،‬في عالم‬
 ‫قا ٍس متحجر‪ ،‬لسوء الحظ أعرفه جي ًدا‪ ،‬قضي ُت ما يقرب‬
‫من عشرين عا ًما تحت أسقف المستشفيات وبين جدرانها‬
‫الباردة‪ ..‬طوال سنوات الدراسة بكلية الطب وما تبعها من‬
‫سنوا ٍت في العمل داخل مستشفى الكلية وخارجها‪ ،‬لأكثر‬
‫من نصف عمري حاول ُت جاهد ًة ألا أوجع قلوب الأمهات‪.‬‬
‫تحمل ُت أشياء أهونها كان السهر لأيام مع العمل المتواصل‪،‬‬
  ‫وأشدها كانت بصقة في وجهي‪ ،‬أرسلها أب فقد أعصابه‬
  ‫أمامي‪ ،‬مشحو ًنا بالغضب خلف أبواب الطوارئ ومكاتب‬
     ‫الموظفين والخزينة وصمت الأطباء المشغولين بأعداد‬
‫المرضى الكبيرة‪ ..‬ولكن لا ِقبل لي بأول ليلة تفارقينني فيها‬
 ‫بعد ثمانية أشهر من المخالطة والمؤانسة‪ ،‬ثمانية أشهر من‬
   ‫الحب الخالص الفائق عن الحد‪ ،‬رسم ُت خلالها ملام ًحا‬
   ‫لوجهك وتخيل ُت لون عيني ِك عشرات المرات‪ .‬التقطوا لها‬
  ‫صورة وهي في حوضها الزجاجي‪ ،‬غير واضحة إلا من‬
‫شعرها الأسود الفاحم الناعم‪ ،‬وبياض ذراعيها الصغيرين‪،‬‬
    ‫لم يظهر وجهها الذي يحكون عنه وعن جماله‪ ،‬عندما‬
‫شاهدت الصورة المهتزة أدرك ُت أن هناك أم ًرا يخفونه عني‬

                     ‫ولكنه جل ٌّي بفعل التعتيم المتعمد‪.‬‬
 ‫هناك أم ٌر ما‪ ،‬لا يحتاج إلى شرح أو توضيح‪ ،‬ربما كان من‬

    ‫الأفضل أن أ َّطلع عليه بنفسي في الغد! نم ُت رغ ًما عني‪،‬‬
     ‫ارتاحت حواسي من إزعاج البشر أصحاب القصص‬
   ‫المتكررة العادية‪ ،‬العادية ج ًّدا‪ ،‬البشر السعداء بمواليدهم‬

        ‫الجدد‪ ،‬المشغولون بتأطير أفراحهم بالورق المقوى‬
                    ‫و»الجليتر» والبالونات والزغاريد‪.‬‬

‫َل َك ْم تمني ُت لو كن ُت فقط واحد ًة منهن‪ ،‬مجرد امرأة بسيطة‬
   ‫مغرقة في عاديتها بلا أي شيء مختلف ُيذكر عنها‪ ،‬لها‬

‫قصة مملة‪ ،‬بإيقاع رتيب‪ ،‬وبأحدا ٍث متكررة لا جديد فيها‪،‬‬
                    ‫ولكن الخالق كان له تصور آخر!‬

                                  ‫‪------------‬‬
‫فصل من رواية « ِس ْد َرة» التي تصدر قري ًبا عن دار روافد‪.‬‬
   74   75   76   77   78   79   80   81   82   83   84