Page 78 - ميريت الثقافية- العدد (29) مايو 2021
P. 78

‫العـدد ‪29‬‬  ‫‪76‬‬

‫مايو ‪٢٠٢1‬‬

 ‫في الدائرة كمثيلاتها‪ ،‬على مدار السنوات كفف ُت يدي عن‬
  ‫ملفوف جدتي كي لا أفسده‪ ،‬لسان حالي ابعدي يا جدة‬
   ‫هذي الفتاة الدامعة عن خلطتك السعيدة‪ ،‬سوف تفسد‬
‫كل شيء بحزنها وكثرة ما تحمل من ِف َكر‪ ،‬مكا ُنها بجوار‬
   ‫العجائز والنائحات والن ّدابات القدامى‪ ،‬وباتت نظراتها‬

    ‫تقول‪ :‬ابتعدي بهاتين العينين‪ ،‬قلبي يأكلني عليهما‪..‬‬
      ‫أراها في أحلامي بانتظام‪ ،‬تعطيني الخبز وأقراص‬
     ‫الرحمة‪ ،‬وال ُّشريك‪ ،‬ترسل ذات النظرات‪« :‬لس ُت هنا‬

   ‫ولا هناك كي أنق َذك مثل قدور الملفوف قبل أن تلسعه‬
   ‫النار وتنال من صفه الأول‪ ،‬ليتك وجبة كثيرة الملح أو‬
   ‫معكرونة معجنة أو صحن ملوخية أسرفنا في غليانها‬

                                       ‫فسقطت!‬
              ‫أستطيع إنقاذ هذا الطعام أما أن ِت فلا»‪..‬‬
  ‫صخب‪ ،‬أطفال يتجولون أمام غرفتي‪ ،‬أجراس هواتف‪..‬‬
   ‫محادثات طويلة‪ ..‬هم أهالي الأمهات رفيقاتي في نفس‬
   ‫الطابق بالمستشفى‪ ،‬منهن من تعاني آلام المخاض قبل‬
   ‫أن يهرعوا بها إلى غرفة العمليات‪ ،‬ومنهن من وضعت‬
 ‫بسلام وصعدت بصحبة رضيعها فاستقبلت بالبالونات‬
 ‫والزينة المعدة خصي ًصا لها ولمولودها كما هو دارج هذه‬
  ‫الأيام‪ ،‬في الوقت الذي كن ُت أتمرن فيه على النهوض من‬
  ‫سريري لأقف وأحاول السير مجد ًدا‪ ،‬كل حركة بمثابة‬
    ‫طعنة في لحمي‪ ،‬لا شهيق يشبعني من هواء الله‪ ،‬ولا‬
 ‫زفير يخلصني من وجع صدري ووهن قلبي‪ ،‬نصحتني‬
   ‫الممرضة بالسير خارج الغرفة معتمد ًة عليها بنا ًء على‬
‫أوامر الطبيب‪ ،‬وظلت تعدد في محاسن السير المبكر وأثره‬
  ‫في التئام الجرح وتقوية عضلات البطن‪ ،‬كن ُت ص َّماء إلا‬
    ‫من صوت رضيعتي في غرفة العمليات وهي تصرخ‪،‬‬
 ‫خرجت من الغرفة كمن يتعلَّم المشي‪ ،‬أُ َمنِّي روحي أنني‬
   ‫قريبًا سأكون إلى جانب «سدرة» أساعدها على السير‬
  ‫بمفردها كما تساعدني هذه الفتاة الطيبة‪ ،‬في عال ٍم موا ٍز‬
      ‫تتصاعد المباركات والضحكات من غرف جاراتي‪،‬‬
‫بالونات وردية تطير من إحداها لتتوقف أمام باب غرفتي‬
             ‫مكتوب عليها بالإنجليزية‪.»It’s a girl« :‬‬

                            ‫يا إلهي! أي عذاب هذا؟‬
                            ‫أين سدرة؟ أين ابنتي؟‬
 ‫أسأل الممرضة‪ :‬هل من الممكن أن تأخذيني إلى المح َضن؟‬
     ‫تخبرني أن الطريق طويل ج ًّدا من هنا سي ًرا‪ ،‬وأني‬
       ‫أستطيع الذهاب فوق كرسي متحرك ولكن غ ًدا‪..‬‬
   ‫الطريق طويل ج ًّدا يا حبيبتي‪ ،‬تما ًما مثل رحلة ما بين‬
   73   74   75   76   77   78   79   80   81   82   83