Page 77 - ميريت الثقافية- العدد (29) مايو 2021
P. 77

‫‪75‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

                                    ‫مطمئن ًة إياي‪:‬‬             ‫شيء‪ ،‬ومزاحهم الخفيف الدال على احترافهم‪ ،‬أياديهم‬
                             ‫ل ِك جرعة أخرى لي ًل‪..‬‬            ‫ال َّد ِر َبة وغمزاتهم التي أتوهمها لبعضهم البعض‪ ،‬رغم‬
  ‫ألا يوجد لديكم أدوية للأمهات اللاتي لم يرين أطفالهن‬       ‫ابتسام طبيب التخدير المجاني ناق ًل إل َّي الأخبار أو ًل بأول‬
 ‫ال ُّر َّضع بعد؟ هل سيجعلني هذا المورفين أنام حتى تعود‬         ‫مثل معلق رياضي برع في إلهائي عن متابعة المباراة‬
                                                               ‫الدامية‪ ،‬يسألني بين الحين والآخر إذا ما كن ُت أشعر‬
                                      ‫طفلتي إل َّي؟‬           ‫بدوار‪ ،‬فأر ّد بأن جسدي يرتعش‪ ،‬يحقن وريدي بكمي ٍة‬
   ‫أسمع همس الأحبة بين اليقظة والنوم‪ ،‬يجب أن أنام‪،‬‬              ‫قليلة من البيثيدين‪ ،‬تتلاشى الرعدة تدريجيًّا وأح ُّس‬
     ‫لم أن ْم بعمق لأشهر‪ ،‬كن ُت أسخر من جسدي المنتفخ‬            ‫صد ًقا بأن جسدي قد خف حمله فجأة‪ ،‬وأن ساح ًرا‬
 ‫ضاحك ًة‪ ،‬أقول لهم‪ :‬إنني أصبح ُت في نومي أتدحرج على‬         ‫متمكنًا قد رفعه إلى أعلى‪-‬بلا عم ٍد ُترى‪ -‬في نهاية عرضه‬
    ‫سريري مثلما يتدحرج الفيلة في الطين‪ ،‬حيث يصعب‬
  ‫النوم على أحد جانب َّي لفترة طويلة‪ ،‬وممنوع أن أستلقي‬                                                ‫المبهر!‬
                                                            ‫كان نصفي الأسفل ُمخ َّد ًرا بالكامل‪ ،‬في حالة شلل مؤقت‬
     ‫على ظهري؛ لأن في ذلك خط ًرا على ابنتي‪ ،‬مع مرور‬          ‫لن تقدر في أثنائها على تحريك إصبع قدمك الأصغر ولا‬
  ‫الوقت‪ ،‬حتى التدحرج أضحى مستحي ًل‪ ،‬فبِ ُّت أتكئ على‬
‫جانبي الأيمن لأسابيع فوق أريك ٍة أحشوها بالوسائد لع ِّل‬       ‫لمسافة ملليمتر واحد‪ ،‬لما فرغوا مني‪ ،‬نقلوني إلى حجر ٍة‬
   ‫أحصل على بضع ساعات من النوم المريح بلا جدوى‪،‬‬             ‫وفرا ٍش‪ ،‬أذكرها ملء قلبي ولساني‪ِ « :‬سدرة»‪ ،‬مقتفي ًة أثر‬
   ‫خاص ًة بعد ظهور الحكة التي لازمتني لأكثر من شهر‬          ‫العرب إذا ما َخ ِد َرت ِر ْج ُل أحدهم وفترت َف َذ َكر من يحب‪،‬‬
 ‫وباتت تشتد في الليل وحتى شروق الشمس‪ ،‬كن ُت أبكي‬            ‫ذهب عن رجله َخ َد ُرها‪ ،‬لكن لم يحدث شيء‪ ،‬فلم أق َو على‬
 ‫لساعات بين التضرع والصلاة والشعور بالعجز الكامل‬            ‫المشي إليها يومها‪ ،‬ولا بعد انتهاء مفعول المخ ِّدر بساعات‬

                 ‫حيال ما يحدث لي ولابنتي المسكينة!‬                  ‫حيث عادت الروح إلى رجلي ولم تعد إلى قلبي‪..‬‬
‫الحياة كلها لا تساوي نظرة جدتي في فراشها قبل وفاتها‬            ‫أح ُّب الناس إل َّي يصطفون حول سريري‪ ،‬أرى دموعهم‬
‫بأيام قليلة‪ ،‬تريد أن تقلِّب جسدها السمين يمينًا أو يسا ًرا‬
                                                                   ‫المخبَّأة خلف ابتسامهم الزائف‪ ،‬زوجي يحتضنني‬
                       ‫تنادينا كي نساعدها‪ :‬يا ولاد!‬              ‫كالإسفنج محاو ًل امتصاص ما بي من حزن‪ ،‬أبحث‬
   ‫القرار صعب‪ ..‬هي تعرف جي ًدا الخطر الذي ينتظرها‪:‬‬             ‫في عينيه الدامعتين عن «سدرة» ابنتنا التي طالما حلمنا‬
  ‫الخطر في عدم شعورها بالراحة في الوضع الجديد بعد‬
‫المناداة وعناء الحركة المضنية‪ ،‬والوجع‪« ..‬الوجع يا ولاد»‪،‬‬                      ‫بمجيئها‪ ،‬وداعبناها وغنينا لها م ًعا‪:‬‬
 ‫وكما تو َّق َعت لم ترحها جهة اليمين كذلك‪ ،‬فمالت برأسها‬                                   ‫كيف هي؟ ِصفها لي!‬
 ‫قلي ًل إلى الأمام‪ ،‬وكادت أن تقع‪ ،‬أرسلت ضحكة ساخرة‪:‬‬
                                                            ‫أطلبها منه بصو ٍت واهن‪ ،‬أشعر بدقات قلبه تتسارع قبل‬
                                            ‫هأ!‬                                                  ‫أن يجيبني‪:‬‬
                         ‫ودي تب َقى عيشة يا ولاد؟!‬
                    ‫رحل ِت أن ِت و ِعشنا نحن يا جدة‪..‬‬                                    ‫مثل البدر يا حبيبتي‪.‬‬
     ‫أتذكر حرصها وهي تصنع الملفوف أن تضع البنات‬               ‫أتذ َّكر الرؤيا التي ُب ِّشرت فيها قبل اكتشافي أنني حبلى‬
   ‫أيديهن في الخلطة الحريفة‪ ،‬أن يغمسن أصابعهن فيها‬          ‫بها ببضعة أيام‪ ،‬فرأي ُت البدر كما لم أره من قبل‪ ،‬كأن لا‬
  ‫لتحلو الطبخة التي ينتظرها الجميع بشوق‪ ،‬باتت تعتقد‬
   ‫أن شه ًدا خفيف السكر يتساقط من أصابع العذراوات‬                 ‫شيء في السماء سواه‪ ،‬كأنه كما يقول فؤاد حداد‪:‬‬
  ‫فيضبط ملحها‪ُ ،‬تن ِضج ضحكاتهن الخبيثة حبات الأرز‪،‬‬                            ‫لقيت القمر في وشي كبير وقر ِّيب‪..‬‬
  ‫ربما تتدحرج في الصواني آمالهن العريضة‪ ،‬تتسلل مع‬
 ‫الخليط إلى قلب أصابع الملفوف رسائ ُل حظ مخفية تبعث‬               ‫كأنه كما يقول في موضع آخر في نفس القصيدة‪:‬‬
     ‫على الابتسام‪ ،‬كن ُت معهن أمتثل لأمر جدتي وأغمس‬                           ‫والقمر ميَّال لكل الدنيا مالي الدنيا‪..‬‬
   ‫أصابعي بزهو في الخلطة مثلهن‪ ،‬ألتقط بضع وريقات‬                                     ‫ألِ ُّح على زوجي في السؤال‪:‬‬
  ‫من الكرنب وألفه على طريقتها ثم أضع الأصابع بنظام‬                                                 ‫صفها لي!‬
                                                                                        ‫غ ًدا ترينها يا حبيبتي‪..‬‬

                                                            ‫الأحبة يبكون بصو ٍت خافت‪ ،‬ينصحونني بالنوم لأرتاح‪،‬‬
                                                              ‫تضمني أمي وتهدهدني حتى أغمض عين َّي‪ ،‬يأخذ الألم‬
                                                              ‫في التصاعد فأصرخ‪ ،‬تحقنني الممرضة بجرعة مورفين‬
   72   73   74   75   76   77   78   79   80   81   82