Page 86 - 31- ميريت الثقافية- يوليو 2021
P. 86
العـدد 31 84
يوليو ٢٠٢1
طلعت رضوان
نزوات الموج
المُتزاحمة بعبث ولهو عشرات الفئران فى بئر مهجورة. أطلق خياله وراء حركة الموج .كانت الأمواج ترتمى على
بعد عدة سنوات من الإفراج عن المعتقلين ،شاهد الرمال بهدوء وبلا صخب .ترجمها خياله برفصات
الأطفال ال ُر ّضع فى لحظات السعادة البريئة.
صاحب الشعر الأبيض فى بعض الأفلام والمسلسلات. يجلس فى محل للسمك المشوى فى الإسكندرية .يقع
كان يشعر بالفرح لأ ّن صاحب الضحكة المُميزة عاد إلى
الحياة .وأ ّن سنوات العذاب والتعذيب انته ْت .وبعد أ ْن المحل قريبًا من الشاطىء .بنظرة خاطفة اكتشف أ ّن كل
ُيغلق التليفزيون تمتلىء شاشة عينيه المُغمضت ْين بالدم الترابيزات تطل على البحر فى شكل قوس هندسى بديع.
النازف من الأجساد العارية .وتم ّزق أذنيه صرخات الألم ر ّن الموبايل .بعد السلامات قال (أنا عارف إنك بتحبى
فى جلسات الكى بالنار وتقليع الأظافر .كلما شاهده فى
التليفزيون يبتهج ثم يبتئس .يتمنى أ ْن تجمعهما ال ُصدفة، السمك المشوى .تعالى نفتح نفس بعض) يبدو أنها
اعتذر ْت فقال (خلاص أشوفك بالليل) وقبل أ ْن ُينهى
وبدون فاصل شعورى يتبرأ من أمنيته ويتمنى ألا المكالمة جلجل صوته بضحكة انتبه لها كل من حوله.
تحدث. أما صاحب المطعم ،فقد أرجعته الضحكة أربعين عا ًما
إلى الوراء .نقلته فى لحظة من الإسكندرية إلى الواحات.
بينما كان صاحب الضحكة المُجلجلة يتعامل مع السمك من مطعم للسمك المشوى إلى عنابر التعذيب .هل ُيك ّذب
المشوى بشهية ،كانت عيناه تتابعان نزوات الموج فى رحلة أذنيه؟ وإذا كذبهما فهل ُيك ّذب ما هو محفور فى وجدانه؟
الوصول إلى الشاطىء .لاحظ أ ّن رفصات الأطفال ال ُرضع إنها ذات الضحكة المُجلجلة بما تحمله من عذوبة وما
فى لحظات السعادة البريئة تحتضر ،لتحل محلها بدايات تج ّسده من عذاب .الضحكة التى قال عنها كل المُعتقلين
عنف خجول ،ذكرته بمشاغبات الصبا .ر ّن الموبايل. إنها مزج ْت براءة الطفولة بالسخرية من الجلادين.
جلجل صوته بضحكة ُمد ّوية .شعر صاحب المطعم تظاهر بالنظر فى فضاء المحل .مش ْت عيناه كأنما بعفوية
بالضحكة المُميزة تتسلل إلى بئر الذكريات ،تنكش كل على وجوه الزبائن .تس ّمرتا عند وجه صاحب الضحكة
المخزون ،تثير الفوضى ،تحيى ما تص ّور أنه مات .عندئذ المُجلجلة .لم ينتبه صاحب المطعم إلى أنه قد ُيضبط متلب ًسا
سمع صرخة ُمد ّوية تصعد من البئر لتخترق كل حواسه. بفعل التطفل .إنه هو بقامته المديدة ورقبته الطويلة التى
تعامل ْت الحواس مع الصرخة وفك ْت خيوط ما غمض:
ال ُصدفة التى تمنيتها أت ْت .والتراجع هو المستحيل ،هو كانت تشعرنى بالقوة والمهابة .حتى ملامح وجهه لم
تتغير كثي ًرا .أما شعره الأبيض فهو ما ُيميّزه عندما كان
الندم الذى ُيجدد الألم.
انتظر حتى ينتهى من طعامه ،وحتى ينصرف شا ًّبا منذ اليوم الأول لوصوله إلى معتقل الواحات.
المُتحلقون حوله ،المُعجبون بشخصه وبتمثيله فى الأفلام لم ُيقاوم رغبة الوصول إلى اليقين .تمشى ببطء بجوار
والمسلسلات .تق ّدم نحوه .جلس فى مواجهته .أربع
عيون وعقلان ونفسان وبئران من الذكريات .هل يتج ّمد الترابيزات .دخل الممر المؤدى إلى أحواض الاغتسال.
الزمن؟ هل يعود للوراء مثلما نفعل مع شرائط الفيديو؟ وقف وراء الستارة وأرسل نظرات ثاقبة ثابتة على
ُيحاول صاحب الشعر الأبيض أ ْن يسترجع نفسه من صاحب الضحكة المُميّزة .لم يعد للشك معنى .إنه هو.
عاد إلى مكتبه بمئات الأفكار فى رأسه .ذكرته الأفكار