Page 87 - 31- ميريت الثقافية- يوليو 2021
P. 87
85 إبداع ومبدعون
قصــة
أمامه ُمهل ًل مرحبًا .جلسا متقابل ْين .وكان بخار الشاى بئر الذكريات .بكل ما يملك من إرادة ركز وعيه فى عينيه
المُتصاعد بينهما رفي ًقا ثالثًا .قطع صاحب المطعم الصمت ل ُيتابع ضربات الموج التى تخط ْت مرحلة ُمشاغبات الصبا،
الجارح وقال( :أنا حاسس وعارف اللى إنت بتفكر فيه. لتكون كضربات المُحترفين فى قوتها وعنفها .أما صاحب
وأى كلام تقوله أنا موافقك عليه .حتى لو قلعت الجزمه
المطعم ،فقد كان ْت ضربات قلبه تضربه بعنف ،فتطغى
وضربتنى ح أقول دا حقك .بس إنت إنسان متعلم. على صوت ضربات الموج .الزمن الذى تج ّمد للحظات،
وعارف إ ْن أنا واللى زيى كنا بننفذ الأوامر). والذى عاد بهما أربعين عا ًما إلى الوراء فى لحظة ،نفخ
فيه صاحب الشعر الأبيض بضحكته التى فصل ْت براءة
عند الكلمة الأخيرة شرد صاحب الشعر الأبيض .أدرك الطفولة ،ولم يبق منها إ َّل سمتها الساخرة .صاح صياح
أنها قد تكون السبب فى تغير مشاعره (الأوامر .الأوامر.
المباغت( :الشاويش كساب؟)
نعم كان الشاويش كساب والجنود وصغار الضباط كاد الزمن أ ْن يتج ّمد من جديد .نفخ فيه صاحب المطعم
الذين مارسوا التعذيب ضدنا ُينفذون الأوامر .ولكنهم هذه المرة عندما ضمه إلى صدره النابض بالعفوية .بينما
فى اللحظات التى لا يوجد فيها أى رقيب غير ضمائرهم،
كثي ًرا ما كانوا يخرقون الأوامر .عندما خرج الضابط من صدر الآخر ينبض بالمرارة ،وكاد ُيطلق ضحكة تغيّر
عنبر التعذيب ،كنت أنا والشاويش كساب فى مواجهة مسار الكواكب والنجوم ،ليشاهد البشر عبقرية القدر
بعضنا البعض .أنا بجروحى وآلامى وضعفى واحتقارى الساخرة( :أنا فى حضن جلادى .وكأ ّن بشاعة التعذيب
التى لاحقتنى أربعين عا ًما ،تمحوها لحظة) .فى هذه
لنفسى ،وهو بسياطه وبالشرر اللاسع المقذوف من اللحظة لم يتج ّمد الزمن وحده ،وإنما تج ّمد فكره وأصابه
عينيه إلى كل جروحى وجوارحى .وفجأة -ولا أعرف الشلل .لا يعرف ماذا يفعل وقد اختطفه الجلاد وخبّأه
السبب حتى الآن -إذا به يهمس فى أذنى بصوت آمر، فى حضنه .أنقذه الآخر من حالة الشلل بأ ْن صاح بفرح
جمع بين الخوف والحقد والمرارة وكراهية كل العالم طفولى( :تغسل إديك وبعدين نقعد نشرب الشاى سوا).
(إسمع .أنا ح أضرب الأرض وإنت تس ّرخ .مفهوم) آه!! وهو يغتسل كان الزمن يلعب لعبته الأثيرة .كانت فترة
الشاويش كساب!! كيف كن ُت أود الهروب من مواجهته الاغتسال أشبه بفترة الراحة المُخ ّصصة للمصارعين فى
وهو الذى أنقذنى من ضعفى؟ بعد ضربة واحدة كن ُت مباراة الملاكمة .صاحب المطعم كان ُيحاول إعادة ترتيب
سأعترف على زملائى .هل اكتش َف ضعفى؟ أم هو قانون الفوضى فى بئر ذكرياته .جلس فى حالة استرخاء عاق ًدا
المُصادفة الذى جعله ُيق ّرر (تمثيل) دور الجلاد؟ وما العزم على عدم المقاومة أو الدفاع عن نفسه .أما الآخر
الأسباب التى دفعته للقيام بهذا الدور؟ هل فقد الأمل
فى اعترافى مثله مثل رئيسه الضابط؟ أم شعر بانهيارى فقد اندهش من تغير مشاعره .حاول أ ْن ُيلجم حدة
وأننى على وشك الاعتراف؟ فى لحظة كن ُت أود الهروب الصراع الذى ينهش صدره .ها هو الشاويش كساب
يعود به أربعين عا ًما إلى الوراء .تختفى صورة الجلاد
من مواجهته ،وفى لحظة يطفو هذا المشهد من بئر لتحل صورة المُنقذ .يعود إلى اللحظات التى كاد يفقد
ذكرياتى .هل أدر َك ضعفى بالفعل؟ وإذا كانت الإجابة فيها إنسانيته .يفقد احترامه لنفسه .عندما ضعف ْت إرادة
(لا) فما سر هذا الشعور القاتل بخجلى وأنا جالس أمام مقاومة التعذيب .عندما كاد الضعف الإنسانى ينتصر على
جلادى ،حتى وقد أنقذنى من نفسى فى لحظة جميلة قيم النبل والشرف وحق الصداقة .عندما ق ّرر فى لحظة
أ ْن يبوح بأسماء زملائه ،لينتهى جحيم التعذيب ،ولتذهب
مسروقة من زمن القبح؟) قيم النبل إلى جهنم .فى لحظة فارقة من معجزات الزمن،
استرخى فى كرسيه وهو يرتشف الشاى و ُيتابع صخب اللحظة التى تفصل بين قرار وقرار ،بين حياة وحياة .فى
الأمواج الهادرة .انتبه على صوت الآخر (إيه يا أستاذ؟ تلك اللحظة المُعجزة ،ينتاب الضابط المُشرف على التعذيب
إنت لسه زعلان منى؟ دا أنا لما أخدت ْك فى حضنى .ونم ْت اليأس من اعتراف المُناضل ،فيخرج من عنبر التعذيب
علا سدرى ،قلت فى نفسى أكيد الأستاذ قلبه أبيض تار ًكا الشاويش كساب ل ُيواصل عمله.
ومسامح .و َّل إنت لسه موش مسامح؟) انتبه إلى أ ّن بقاءه أمام حوض الاغتسال قد طال .فكر فى
الهروب من الموقف .بمجرد أ ْن ح ّرك الستارة ليخرج ،رآه
التسامح واللا تسامح؟ ماذا يقول لهذا الإنسان الذى
جمع بين الجلاد والمُنقذ؟ ماذا يقول عن علاقة القاعدة
بالاستثناء؟ وهل الاستثناء مهما بلغ نبله يمحو بشاعة