Page 88 - 31- ميريت الثقافية- يوليو 2021
P. 88

‫العـدد ‪31‬‬   ‫‪86‬‬

                                                      ‫يوليو ‪٢٠٢1‬‬

‫فيها‪ .‬يحضر معه قطعة قماش مبلولة‪ ،‬يمسح بها جبهته‬        ‫الأصل المُتمثل فى القاعدة؟ كانت الأسئلة تضربه بعنف‪.‬‬
        ‫وشفتيه ثم يطعمه ويسقيه‪ ،‬بالتواطؤ الصامت‬        ‫وتهشم ْت كل الإجابات على صخور الشك‪ .‬نظر للجالس‬
                             ‫مع جندى الحراسة‪.‬‬          ‫أمامه بتمعن‪ .‬يرى صورة الجلاد ثم يرى صورة المُنقذ‪.‬‬
               ‫آه يا شاويش كساب! ماذا تفعل بى؟‬         ‫وفجأة ‪-‬كأنما يهرب من حيرته‪ -‬سأله (إنت بتعمل إيه‬
                  ‫نجاتى وكل الذين رفضوا الهتاف‬        ‫هنا؟) قال الآخر (أنا صاحب المطعم يا باشا) أطلق المزيد‬
                   ‫للجلاد الأكبر‪ ،‬وتح ّملوا التعذيب‬
                     ‫كانوا عجزنا‪ ،‬وكانوا ‪-‬أي ًضا‪-‬‬         ‫من الضحكات الساخرة (باشا! أنا الذى كن ُت أحضن‬
                             ‫رمو ًزا لقوة صلابتنا‬     ‫عروسة التعذيب واسمى الثلاثى ولد ابن كلب ابن قحبه‪،‬‬
                              ‫(*) ماذا تريد منى‬       ‫أصبح ُت الآن باشا!) سأله (من شاويش لصاحب مطعم؟‬
                               ‫أيها الجلاد المُع َذب‬  ‫إزاى دا حصل؟) ر ّد بعفوية (لما خرج ْت علا المعاش‪ ،‬بع ْت‬
                               ‫بضميره والمُع ِذب‬
                                 ‫للآخرين؟ كيف‬           ‫الأرض اللى ورثتها‪ .‬شغلى فى الشرطة نسانى الفلاحه‪.‬‬
                                    ‫استطع َت أ ْن‬              ‫فتح ْت دكان السمك‪ .‬عن إذنك أشوف الزباين)‬
                                  ‫تضغط أربعين‬
                               ‫عا ًما فى لحظة؟ ها‬          ‫تركه لضربات الموج وللذكريات‪ .‬فرح عندما أخبره‬
                              ‫نحن نشرب البيرة‬           ‫المخرج أ ّن التصوير الخارجى سيكون فى الإسكندرية‪.‬‬
                            ‫بالقرب من الشاطىء‬         ‫ها هو فى المكان الذى شهد مولده وطفولته وصباه وحبه‬
                            ‫فى الإسكندرية ومعنا‬
                               ‫نجاتى المدفون فى‬            ‫الأول‪ .‬تن ّهد بعمق وعيناه تتابعان ضربات الموج فى‬
                           ‫البراز‪ .‬وها أنت الجلاد‬                                       ‫لحظلت نزواتها‪.‬‬
                             ‫تطعمه وتسقيه‪ .‬أهو‬
                       ‫زمن الخراء المعجون بالنبل‬       ‫انتبه على اقتراب أحد العمال ومعه زجاجت ْى بيرة‪ .‬بعده‬
                          ‫والتوحش؟ أهو الصراع‬              ‫جاء صاحب المطعم‪ .‬سأله وهو يصب له البيرة عن‬
                         ‫الأبدى بين خلق التعاسة‬
                                ‫وابتداع البهجة؟‬        ‫زملائه وعن أحوالهم بعد خروجهم من المعتقل‪ .‬ثم ختم‬
                                ‫شعر بالذكريات‬                  ‫كلامه متسائ ًل (والأستاذ نجاتى أخباره إيه؟)‬
                              ‫تخنقه‪ .‬وأ ّن البهجة‬
                             ‫ما زال ْت كالنجوم فى‬       ‫آه!! لماذا تنبش فى بئر الذكريات؟ هل لتذكرنى بموقف َك‬
                           ‫السماء تنتظر فارسها‪.‬‬          ‫معه؟ أم لتعيد فتح الجراح؟ نجاتى الأسطورة‪ .‬نجاتى‬
                     ‫ق ّرر أ ْن ينهض ويبتعد عن هذا‬    ‫الذى كان ضمن الشيوعيين الذين رفضوا أ ْن يهتفوا وراء‬
                      ‫المكان‪ .‬تمنى لو يختفى وجه‬          ‫الضابط فى طابور الصباح (عاش جمال عبد الناصر)‬
                     ‫الجالس أمامه‪ ،‬ويختفى العالم‬         ‫ورفضوا أ ْن ُيغنوا (يا جمال يا مثال الوطنيه) نجاتى‬
                   ‫كله أو يختفى هو من هذا العالم‪.‬‬
            ‫فاجأه الآخر قائ ًل (فين دحكتك يا أستاذ‬          ‫العامل لم يكتف بالرفض وإنما صرخ كما الأطفال‬
                                                        ‫الذين لا ُيفكرون فى نتائج أفعالهم (إزاى عاوزنا نهتف‬
     ‫اللى زى دحكة الأطفال؟ مال وشك اتغير كدا مرة‬       ‫بحياة جلادنا؟) ولما رفض التراجع كان مصيره المحتوم‬
 ‫واحدة؟ يا سيدى آهى كانت أيام وغار ْت‪ .‬أيام وانته ْت‬     ‫فى اللوح المحفوظ فى دولة البطش‪ .‬أصدر قائد المُعتقل‬
                                                      ‫أوامره‪ .‬يقول ك ْن فيكون‪ .‬ج ّرده الجنود من ملابسه‪ .‬بعد‬
   ‫وراح ْت لحالها) كاد يصرخ فى وجهه (لا يا شاويش‬        ‫ساعت ْين من الضرب بالعصى والسياط أنزلوه واق ًفا فى‬
    ‫كساب‪ .‬ما زال ْت التعاسة كلابات خانقة لكل أجنحة‬      ‫الحفرة العميقة المليئة ببراز وبول المعتقلين‪ .‬وأحضروا‬
   ‫البهجة‪ .‬لا يا شاويش كساب‪ .‬أنت قادر على صناعة‬          ‫جثة كلب‪ ،‬فكان هو والجثة فى وضع احتضان‪ .‬كانت‬
                                                         ‫الأوامر أ ْن يبقى هكذا لمدة يوم ْين بلا ماء أو طعام‪ .‬لم‬
                                                      ‫يظهر من جسده إلاّ رأسه وعينان شاخصتان متحديتان‪.‬‬

                                                           ‫كنا ننظر إلى العامل نجاتى نظرة العاجز عن الفعل‪،‬‬
                                                      ‫فيتع ّمق إحساسنا بالذل المعجون بالقهر‪ .‬بعد انتهاء فترة‬

                                                          ‫العقوبة التى ح ّددها إله المعتقل‪ ،‬علم ُت من نجاتى أ ّن‬
                                                      ‫الشاويش كساب‪ ،‬كان يتسلل كل ليلة إلى الحفرة المدفون‬
   83   84   85   86   87   88   89   90   91   92   93