Page 93 - 31- ميريت الثقافية- يوليو 2021
P. 93

‫‪91‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

    ‫بالذات؟ لا يعلم بالضبط‪ .‬مرت الأعوام السابقة‬       ‫منها البخار في رغيف أبيض جميل‪ ،‬عاد إلى جسر‬
‫وجلب أمه معه إلى شقة المنصورة‪ ،‬بعد شهور قليلة‬            ‫الترعة وجلس أمام الماء‪ ،‬أخذ يلتهم الرغيف في‬
 ‫أصرت على العودة إلى البلد؛ عايزة أموت في داري‪.‬‬
‫كان يزورها أحيا ًنا لما يتمكن من خطف لحظات من‬       ‫تلذذ‪ ،‬انتهى‪ ،‬لمح بعد فاترينة الرجل مكتبة كبيرة إلى‬
‫مشاغله المتراكمة‪ ،‬لكنه لم يزرها منذ مدة حين غرق‬      ‫جوارها دكان صغير يفرش أمامه صاحبه منضدة‬
‫في مشاكل الأولاد ومطالب الزوجة‪ .‬لماذا انبثق الألم‬    ‫واسعة‪ ،‬يرص فوقها أدوات المنزل‪ ،‬ولمح الشبشب‪،‬‬
‫هذه المرة قو ًّيا‪ ،‬شيء ما يسري في دمه‪ .‬في أحشائه‪.‬‬
                                                       ‫زاهيًا يناديه فذهب إليه‪ ،‬قلبه بين يديه وتأكد أنه‬
 ‫يزن في رأسه دون سبب واضح‪ .‬فارتدى ملابسه‬                                                 ‫مقاس أمه‪:‬‬
      ‫وهم بالذهاب إلى المكتب لإنهاء بعض الأعمال‬
                                                                                      ‫‪ -‬بكام يا عم؟‬
   ‫المتأخرة‪ ،‬لكنه عندما أدار سيارته‪ .‬سمع الصوت‬                                     ‫‪ -‬خمسة قروش‪.‬‬
                  ‫المباغت؛ ست الحبايب يا حبيبة‪.‬‬            ‫أسقط في يده‪ ،.‬هوى قلبه بين ضلوعه‪ ،‬أخذ‬
                                                        ‫يستجدي الرجل أن يجعلهم أربعة قروش فقط‪:‬‬
     ‫كان راديو السيارة مفتو ًحا‪ ،‬الصوت يصب في‬                                ‫‪ -‬هما اللي معايا يا عم‪..‬‬
    ‫عروقه زيتًا مغليًّا‪ .‬يحرق خلاياه‪ ،‬لدهشته ألفى‬          ‫رد البائع بفظاظة‪ :‬اللي ممعهوش ميلزموش‪.‬‬
‫نفسه يذهب إلى شارع السكة الجديدة حيث َمحلات‬                  ‫هتمشي ولا اندهلك العسكري من المركز؟‬
     ‫بيع الأحذية‪ ،‬كان قد اشتري لزوجته من محل‬              ‫خاف‪ ..‬أخذته رعشة‪ ،‬تكونت في عينيه دموع‪،‬‬
     ‫معروف به حذا ًء جي ًدا‪ ،‬استقبله صاحب المحل‬     ‫تحجرت الدموع في مقلتيه‪ ،‬في مشوار العودة خائبًا‬
                                                         ‫العشرة كيلو مترات مرة أخرى أغشت الدموع‬
      ‫بترحاب زائد‪ .‬إلا أنه أخذ يدور بعينيه متام ًل‬    ‫عينيه وكادت السيارات تخبطه‪ .‬كون الألم بداخله‬
  ‫الأحذية الحريمي‪ ،‬محاو ًل تذكر مقاس أمه‪ ،‬انتقي‬                 ‫جدا ًرا سيظل يكبر ليغير حياته كاملة‪.‬‬
  ‫واح ًدا أسود اللون من الجلد الطبيعي بدون كعب‪.‬‬         ‫عندما وصل الدار‪ ،‬وجد أمه تضع المشنة وسط‬

              ‫قال للبائع‪ :‬من فضلك لفه لفة هدايا‪.‬‬                                              ‫الدار‪:‬‬
     ‫فلفه الرجل بورق لامع‪ .‬وعندما ركب السيارة‬        ‫‪ -‬كنت فين طول النهار يا ضنايا؟ أكلت ولا لسة؟‬
      ‫وجد نفسه مندف ًعا ناحية طريق البلد‪ ،‬نصف‬         ‫ثمة بركان بداخله‪ ،‬لن يهمد طوال العمر‪ ،‬فافترش‬
      ‫ساعة أو أكثر قلي ًل‪ ،‬كانت الشمس على وشك‬
  ‫الغروب والقرية تنهي يومها المرير‪ ،‬هو لن يذهب‬                                      ‫الحصيرة ونام‪.‬‬
   ‫إلى الدار حيث إنها لم تعد موجودة‪ ،‬اشتم رائحة‬           ‫الجدار ساعده في عدم الاهتمام بهمس زملاء‬
      ‫الغيطان وتفادى الفلاحين العائدين في كسل‪،‬‬         ‫مدرسة الز راعة ‪-‬فيما بعد عندما يلقونه‪ -‬بابن‬
   ‫كذلك تفادى روث البهائم المتناثر في الشارع بعد‬        ‫شهيرة بائعة الجميز‪ ،‬ولم يرعوي أي ًضا بزملاء‬
    ‫أن ركن سيارته في مدخل البلد‪ ،‬اخترق كالمنوم‬       ‫طلبة كلية حقوق المنصورة التي انتسب إليها‪ ،‬لكنة‬
  ‫حقل البرسيم حتى يختصر الطريق إلى مقابرهم‪،‬‬              ‫ظل متفو ًقا يحقق أمنية أمه التي حولت عرقها‬
  ‫لمح شجرة النبق العجوزة أمام قبر أمه‪ ،‬وجد باب‬          ‫وشقائها إلى دمه الذي يسير في عروقه‪ ،‬بعد أن‬
   ‫المقبرة مغل ًقا بسلك رفيع أسود‪ ،‬أزاحه ودخل في‬     ‫فشل في صغره ان يحمي قدميها من التآكل وسط‬
  ‫هدوء‪ ،‬كان يحمل الصندوق المزكرش بيده اليمنى‬             ‫تراب البلد وكلابها المسعورة‪ ،‬هو الآن محامي‬
                                                     ‫معروف‪ ،‬تمكن من امتلاك شقة على نيل المنصورة‬
             ‫واليسرى‪ .‬وضع يده على حافة القبر‪:‬‬           ‫وزوجة وأولاد‪ ،‬صحا ذات صباح على ضجتهم‬
     ‫‪ -‬السلام عليك يا أمي‪ ..‬جبتلك هدية عيد الأم‬     ‫وهم يطلبون منه نقو ًدا كي يشتروا لأمهم هدية عيد‬
                                                    ‫الأم‪ ،‬الأغنيات التي كانت تطنطن طوال أيام متتالية‬
                    ‫ووضع الصندوق على الحافة‪.‬‬        ‫في الراديو والتليفزيون؛ أيقظت المشهد الذي كان قد‬
‫كانت الدمعة المتحجرة القديمة قد بدأت تذوب داخل‬         ‫نام طوي ًل وسط مشاغله وثقل العالم الذي كبس‬
                                                    ‫على أنفاسه كل هذه السنوات‪ ،‬لكن لماذا هذه السنظ‬
     ‫عينيه وتتساقط‪ ،‬جففها بهدوء‪ ،‬وبهدوء خرج‪.‬‬
    ‫أغلق باب المقبرة كما كان ثم ذهب إلى سيارته‪.‬‬
   88   89   90   91   92   93   94   95   96   97   98