Page 16 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 16

‫العـدد ‪34‬‬    ‫‪14‬‬

                                                     ‫أكتوبر ‪٢٠٢1‬‬

 ‫وغرامه بها‪ .‬وقد حرص شوقي على أن ينهج نهج‬             ‫غرامه بمصر وتاريخها ونيلها وحجرها وبشرها‪،‬‬
                           ‫ابن زيدون في نونيته‪:‬‬       ‫وخوفه على أمه التي توشك أن يخطفها الموت وهو‬

                  ‫أضحى التنائي بدي ًل من تدانينا‬        ‫بعيد عنها‪ .‬فلم يكن للمكان الأندلسي من نصيب‬
                    ‫وناب عن طيب لقيانا تجافينا‬            ‫إلا ما ذكرناه من الاستهلال وما تلاه من ذكر‬
                     ‫بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا‬
                     ‫شو ًقا إليكم ولا جفت مآقينا‬     ‫رسوم الماضين من أبناء الأندلس‪ .‬وقد ورد كل ذلك‬
                     ‫نكاد حين تناجيكم ضمائرنا‬          ‫كما بينا على نحو الاستدعاء والاستجابة للعاطفة‬

                  ‫يقضي علينا الأسى لولا تأسينا‬       ‫التاريخية التي ملأت قلب شوقي ع ًّزا وفخ ًرا بتاريخ‬
 ‫وخالفه في التوجه العاطفي‪ .‬فشوقي كانت عاطفته‬           ‫العرب والإسلام على نحو عام وتاريخ مصر على‬
 ‫نحو وطنه المنفي بعي ًدا عنه وابن زيدون على الرغم‬                                        ‫نحو خاص‪.‬‬
 ‫من محنته‪ ،‬كانت عاطفته نحو ولادة وحدها‪ .‬ولكن‬              ‫والغرام بمصر والولع بها لا يخفى على امتداد‬
                                                       ‫قصيدته‪ .‬فبعد أن فرغ على عجل من الوقوف على‬
     ‫الهم الأوحد بينهما هو النفي والحرمان‪ .‬فابن‬
   ‫زيدون أودع قلبه في قرطبة عند ولادة‪ ،‬وشوقي‬         ‫رسم الماضين من أبناء الأندلس‪ ،‬استدرك وكأنه قد‬
 ‫حمل الوطن وهمومه وأشواقه فوق ظهره مرتح ًل‬            ‫عاد لصوابه بعد شرود ليذكر مصر بأنها غير كل‬
  ‫إلى منفاه‪ ،‬وظل كل منهما يصارع الشوق إلى من‬
   ‫يحب‪ .‬فشوقي لا يدري أي هوى الأمين يشجيه‪:‬‬                               ‫ما سبق‪ .‬فهي عين من الخلد‪:‬‬
‫هوى أمه أو هوى مصر‪ ،‬وابن زيدون يقتله الشوق‬                             ‫لكن مصر وإن أغضت على مقة‬
 ‫والحنين إلى ولادة وإلى قرطبة حيث ملاعب الصبا‬                           ‫عين من الخلد بالكافور تسقينا‬
    ‫ومتع الشباب‪ .‬فقد استهل ابن زيدون قصيدته‬
  ‫بالبكاء على زمن مضى وزمن لم يعد له فيه مكان‬                                ‫على جوانبها رقت تمائمنا‬
‫ولا ذكر‪ ،‬وحيل بينه وبين ولادة واشتعلت الأشواق‬                            ‫وحول حافاتها قامت رواقينا‬
    ‫ولم تجف الدموع‪ .‬وهذا الاستهلال مختلف عن‬           ‫ويفيض شع ًرا رقي ًقا في مصر وتاريخها ونيلها‪ ،‬ثم‬
                                                      ‫يختم ختا ًما رائ ًعا بذكر أميه‪ :‬أمه التي ولدته تقطن‬
     ‫استهلال شوقي وإن كانا من منبع واحد وهو‬           ‫ضاحية حلوان ومصر‪ ،‬أمه التي يتيه بها فخ ًرا على‬
     ‫الأسى والوجد‪ .‬وكما احتذى شوقي حذو ابن‬                                ‫كل الأمم‪ ،‬وعبر كل الأزمان‪:‬‬
      ‫زيدون بح ًرا وقافية احتذى ابن زيدون حذو‬
                                                                            ‫كنز بحلوان عند الله نطلبه‬
               ‫البحتري بح ًرا وقافية في قصيدته‪:‬‬                          ‫خير الودائع من خير المؤدينا‬
                      ‫يكاد عاذلنا في الحب يغرينا‬                          ‫لو غاب كل عزيز عنه غيبتنا‬
                      ‫فما لجاجك في لوم المحبينا‬                          ‫لم يأته الشوق إلا من نواحينا‬
                                                                           ‫إذا حملنا لمصر أو له شجنا‬
                 ‫نلحى على الوجد من ظلم فديدننا‬                         ‫لم ندر أي هوى الأمين شاجينا‬
                       ‫وجد نعانيه أو لاح يعنينا‬        ‫وإذا كان شوقي استهل نونيته بنائح الطلح فعقد‬
                                                       ‫صلة إنسانية بين محنته ومحنة المعتمد بن عباد‪،‬‬
                     ‫إذا زرود دنت منا صرائمها‬          ‫فإن صو ًتا مضم ًرا في هذه النونية ظل حاض ًرا في‬
                       ‫فلا محالة من زور يواقينا‬      ‫وعي شوقي قبل كتابة القصيدة وأثناء الكتابة حتى‬
 ‫ولم يلتفت المتلقون إلى استهلال شوقي بنداء نائح‬         ‫استوت على هيئتها التي نستقبلها بها حتى الآن‪.‬‬
  ‫الطلح الذي لم يكن أب ًدا ذا صلة بابن زيدون‪ ،‬ولم‬    ‫هذا الصوت هو صوت ابن زيدون الشاعر والوزير‬
 ‫يلتفتوا إلى المماثلة الشعرية والإنسانية التي عقدها‬        ‫وقرين ولادة بنت المستكفي‪ .‬واللافت في هذا‬
   ‫بينه وبين نائح الطلح ولا إلى دلالات هذا النائح‬      ‫الأمر أن استقبال القراء لهذه القصيدة ظل معت ًّزا‬
‫التي تحيل إلى الملك المنفي عن ملكه في أشبيلية وهو‬      ‫بحضور ابن زيدون مع أنه صوت خفي ممثل في‬
    ‫المعتمد بن عباد‪ ،‬وبالطبع لم يقفوا عند محبوبته‬     ‫البحر العروضي والروي ولم يظهر في الصور ولا‬
    ‫المنفية معه‪ .‬ولم يحتفل شوقي بولادة ولا بابن‬       ‫في الأساليب على نحو ما ظهر نائح الطلح أو مصر‬
   11   12   13   14   15   16   17   18   19   20   21