Page 18 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 18

‫العـدد ‪34‬‬    ‫‪16‬‬

                                                    ‫أكتوبر ‪٢٠٢1‬‬

  ‫الرندي‪ ،‬ومع ذك فإن البحتري كان الشاعر الذي‬                          ‫السينية كما حضرت في النونية؟‬
 ‫رافقه في هذا الترحال كما يقول لأنه «أبلغ من جلى‬        ‫حين كتب شوقي سينيته‪ ،‬كتبها لسببين‪ :‬الأول‬
                                                         ‫أن الحرب الكونية وضعت أوزارها ومكنته من‬
    ‫الأثر‪ ،‬وحيا الحجر‪ ،‬ونشر الخبر‪ ،‬وحشر العبر‪،‬‬        ‫أن يغادر برشلونة ‪-‬بعد أن يئس من قرب عودته‬
     ‫ومن قام في مأتم على الدول الكبرى‪ ،‬والمماليك‬       ‫إلى مصر‪ -‬إلى أرض الأندلس حيث ممالك العرب‬
‫البهاليل الغرر‪ ،‬عطف على الجعفري حين تحمل عنه‬             ‫وآثارهم الدارسة ملبيًا صوت وجدانه للوقوف‬
‫الملا‪ ،‬وتكفل بعد ذلك لكسرى بإيوانه‪ ،‬حتى زال عن‬       ‫عليها ووصفها‪ .‬والسبب الثاني أنه بعد الحرب كما‬
   ‫الأرض ديوانه‪ .‬وسينيته المشهورة‪ ..‬تريك حسن‬          ‫يقول‪« :‬أصبحت وإذا العوادي مقصرة‪ ،‬والدواعي‬
‫قيام الشعر على الآثار وكيف تتجدد الديار في بيوته‬
   ‫بعد الاندثار»‪ ،‬فالبحتري قام على قصر الجعفري‬             ‫غير مقصرة‪ ،‬وإذا الشوق إلى الأندلس أغلب‪،‬‬
‫“المتوكل” بعد أن أصابه البلى وأعاده إلى الحياة‪ ،‬ثم‬     ‫والنفس بحق زيارته أطلب‪ ..‬فبلغت النفس بمرآه‬
 ‫تكفل بإيوان كسرى وجدده بعد الاندثار‪ ،‬ثم يختم‬       ‫الأدب‪ ،‬وكحلت العين في ثراه بآثار العرب»‪ .‬ثم يذكر‬
   ‫شوقي حديثه عن قدرة البحترى على تخليد الأثر‬       ‫أن هذه الآثار “لشتى المواقع‪ ،‬متفرقة المطالع في ذلك‬
  ‫بعد أن اندثر‪“ :‬فانظروا إلى إيوان كسرى وسينية‬      ‫الفلك الجامع‪ ،‬يسري زائرها من حرم إلى حرم كمن‬
‫البحتري في وصفه‪ ،‬تجدوا الإيوان قد خرت شعفاته‬            ‫يمسي بالكرنك ويصبح بالهرم‪ ،‬فلا تقارب غير‬
  ‫وعفرت شرقاته‪ ،‬وتجدوا سينية البحتري قد بقي‬
  ‫بها كسرى في ديوانه أضعاف ما بقي شخصه في‬                                            ‫العتق والكرم»‪.‬‬
                                                      ‫وشوقي في هذا النص النثري المسجوع الذي كتبه‬
                                        ‫إيوانه»‪.‬‬
     ‫فالبحتري يمثل الشاعر النموذج أو المثال الذي‬        ‫في تقديم سينيته مائة وعشرة من الأبيات‪ ،‬يعي‬
  ‫بكى الآثار وخلدها وحفظ لها بقاءها بعد الاندثار‪،‬‬    ‫مهمته التي ألحت عليه بعد مكوثه ثلاث سنوات في‬
  ‫والشاعر المتوحد مع موضوعه مثل أحمد شوقي‪،‬‬          ‫برشلونة‪ .‬فهو يعي أنه طيلة هذه السنوات لم يقض‬
     ‫والشاعر المرآة التي يرى شوقي صورته فيها‪،‬‬         ‫وطره في تكحيل العين بآثار العرب‪ ،‬ولا في إشباع‬
     ‫فقد ظل البحتري وفيًّا لتقاليد القصيدة العربية‬   ‫شوق النفس إلى الأندلس‪ ،‬ومن ثم فهذا دليل نصي‬
‫وموصو ًل بتراثها البعيد عند الخنساء التي احتذاها‬
    ‫فكتب سينيته على منوال سينيتها في رثاء أخيها‬          ‫بالغ الوضوح على أن شوقي لم يكتب عن آثار‬
                                                    ‫العرب طيلة بقائه في برشلونة‪ ،‬وأن ما كتبه من آثار‬
                                         ‫صخر‪:‬‬
                      ‫يؤرقني التذكر حين أمسي‬           ‫شعرية كالنونية أو غيرها لم يكن من أندلسياته‪.‬‬
                     ‫فأصبح قد بليت بفرط نكس‬           ‫وفي هذا النص يدرك شوقي أي ًضا وحدة آثار أمته‬
                     ‫على صخر وأي فتي كصخر‬           ‫سواء أكانت في مصر أم في غيرها‪ .‬فهي في الأندلس‬
                        ‫ليوم كريهة وطعان حلس‬        ‫شتى المواقع بين قرطبة وطليطلة وأشبيلية وغرناطة‬
                                                    ‫وأن زائرها في هذا الفلك الجامع يسري من حرم إلى‬
                         ‫وللخصم الألد أذا تعدى‬      ‫حرم كمن يمسي بالكرنك ويصبح بالهرم‪ .‬ثم يؤكد‬
                         ‫ليأخذ حق مظلوم بقنس‬
  ‫ووفاء شوقي للماضين وحفاظه على تقاليد الشعر‬                       ‫أن الجامع بينهما هو العتق والكرم‪.‬‬
  ‫العربي في أزهى عصوره واحتذاؤه كبار الشعراء‬                ‫وشوقي هو شاعر الممالك والآثار الشغوف‬
       ‫من حقائق تاريخ شوقي الشعري‪ .‬لذلك كان‬             ‫بالتاريخ وما فيه من عبر‪ .‬وشعره الذي كتبه في‬
   ‫حضور البحتري المشرقي أقوى من حضور ابن‬              ‫تاريخ الممالك والدول العربية‪ ،‬أو في تاريخ مصر‪،‬‬
‫زيدون أو أبي البقاء الرندي أو غيرهما من الشعراء‬         ‫تخليد لها وإعادة بعثها في عالمنا المعاصر‪ .‬فالأثر‬
‫المشارقة أو المغاربة‪ .‬وهذا ما دعا شوقي إلى احتذائه‬        ‫مهما اندثر لم يمت لأن الشعر بعثه من جديد‬
‫في أمرين‪ :‬الأول بكاء الأثر وإن اختلف المكان لإيمان‬     ‫وخلده‪ .‬ولعل هذا الشغف برثاء الممالك وتخليدها‬
 ‫شوقي بوحدة آثار الأمة‪ .‬يقول البحتري عن أطلال‬         ‫كان الجامع الأقوى بين شوقي والبحتري‪ ،‬مع أن‬
                                                     ‫البحتري شاعر مشرقي بغدادي‪ ،‬وشعراء الأندلس‬
                                                      ‫الذين بكوا الأندلس كثيرون من أبرزهم أبو البقاء‬
   13   14   15   16   17   18   19   20   21   22   23