Page 23 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 23
21 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
لدار مي: وأن آل مروان هم حلقة من حلقات هذه السنة.
ألا يا سلمي يا دار مي على البلى وقرطبة وهي عاصمة بني مروان وهي درة التاج
ومركز العالم القديم كما يقول ،عدت عليها العوادي
ولا زال منه ًل بجرعائك القطر
أو كما دعا لسان الدين بن الخطيب لزمان الوصل: وقهرتها الخطوب:
أين مروان في المشارق عرش
جادك الغيث إذا الغيث همى
يا زمان الوصل بالأندلس أموي وفي المغارب كرسي؟
سقمت شمسهم فرد عليها
ودعا شوقي الله أن يقي ما بقي من قرطبة وأن نورها كل ثاقب الرأي نطس
تظل صفوة الحيا تسقيها بعد أن كانت «تمسك ثم غابت وكل شمس سوى
الأرض أن تميد وترسي» ،وهذا الموقف الشعري هاتيك تبلى وتنطوي تحت رمس
موقف بكائي لا أمام أثر حي ،بل أمام طلل من ويخلص شوقي من هذه التأملات ليشهد بعينية
الأطلال التي حرص الشعراء الذين بكوها على أن آثار بني مروان في قرطبة ،أو قرطبة وما آلت إليه.
يبعثوا فيها الحياة ،ولكن شوقي كان أقرب إلى بكاء وكان من المتوقع أن نشهد وص ًفا تفصيليًّا لمصير
الطلل والدعاء له من أن يصف أث ًرا حيًّا كما وصف قرطبة ،ولكن الانفعال غلب عليه واكتفي بمجمل
الآثار المصرية وبعثها من جديد .ولأن حال قرطبة الحديث الكلي عن سنة التاريخ وفعل الزمن فيما
التي يراها شوقي حال مثيرة للأسى ،فقد عدل
عن وصف ما يرى إلى استدعاء قرطبة التاريخية يراه من الأثر.
من الذاكرة الثقافية ،في موازنة غير معلنة بين لم يرعني سوى ثرى قرطبي
حالين :حال الأثر وحال العين .فالأثر داع للأسى لمست فيه عبرة الدهر خمسي
وباعث على الشجن ،والعين -قرطبة في مجدها-
نابضة بالحياة والمجد والتأثير ،ولكنها الحياة يا وقى الله ما أصبح منه
والمجد والتأثير الذي سجلته أقلام الكتاب وعاشته وسقى صفوة الحيا ما أمسي
ألسنة الشعراء واحتفظت به كتب التاريخ وقصائد قرية لا تعد في الأرض كانت
الشعراء ،واصطفاه شوقي وكتب عنه شعره في تمسك الأرض أن تميد وترسي
قرطبة وجامعها وفي غرناطة وقصر الحمراء. فقرطبة أثر بعد عين يحكي وقع أقدام الزمن وما
وسلك شوقي هذا المسلك وهو العبور فوق الزمن تركته من عبر ولذلك يهتز الرائي لها ويأسى لخوفه
إلى الوراء مستدعيًا صورة للعين ،أعني قرطبة على نفسه من المصير ذاته ،ولشفقته عليها ،وهذا ما
ومسجدها وموكب الخليفة يوم الجمعة ،ومتأسيًا دعا شوقي إلى الائتناس بأسلوب شعري قديم ،وهو
الدعاء للمكان أو الزمان الطيب كما دعا ذو الرمة
لأثر هذا العين .يقول شوقي:
ركب الدهر خاطري في ثراها
فأتى ذلك الحمى بعد حدس
فتجلت لي القصور ومن فيها
من العز في منازل قعس
فعندما ركب الدهر خاطره عاد به إلى الوراء.
وركوب الدهر هنا له معنيان ،أولهما :أن النقيض
يستدعي النقيض .فثرى قرطبة حال مؤس في زمن
الأفول ،استدعى نقيضه وهو زمن الفتوة والمجد.
والثاني أن فعل الاستدعاء فعل قائم على الذاكرة
وليس قائ ًما على الخيال .والفرق بين الذاكرة
والخيال هو الفرق بين السكون والحركة .فصورة