Page 112 - merit 52
P. 112

‫العـدد ‪52‬‬   ‫‪110‬‬

                                                     ‫أبريل ‪٢٠٢3‬‬

   ‫حائط الجالوص‪ .‬هي قصيرة نو ًعا ما‪ ،‬فتطلع على‬       ‫لا بأس أن تأخذ النصائح من الأفلام‪ .‬بعد أن انتهيت‬
‫مقعد قوائمه من الخشب‪ ،‬ذلك النوع الذي يصنع منه‬           ‫من عملي‪ ،‬ذهبت إلى الدار السودانية للكتب‪ ،‬مكان‬
 ‫العنقريب وأنا على طوبتين من الطين‪ .‬ونثرثر طوال‬        ‫أصبحت أذهب إليه بعد أن تغيرت‪ .‬اشتريت رواية‬

  ‫الليل وأحيا ًنا نتبادل القبل‪ ،‬في بعض الأحيان كانت‬   ‫ميرامار لنجيب محفوظ‪ .‬تعجبني هذه الرواية‪ ،‬فيها‬
 ‫تسمح لي بلمس صدرها‪ .‬ذات مرة رضيت أن تأتي‬                         ‫شخصية زهرة وهي شخصية رائعة‪.‬‬
 ‫إل َّي‪ ،‬بمعنى حاولت أن تتجاوز الحائط لنكون معا في‬
                                                           ‫ولحسن الحظ صادفتها تحاول أن تدفع الباب‬
   ‫بيتنا ‪-‬نعم ليس بيتي‪ ،-‬وعندما لم تستطع فعلت‬         ‫لتدخل‪ .‬لم أتردد وأنا أخطوا نحوها‪ ،‬بل كنت أشعر‬
 ‫أنا ذلك‪ ،‬على عكسي بيتها لم يكن خاليًا‪ .‬كنت أسمع‬       ‫بالسعادة كلما اقتربت منها‪ ،‬حتى دخلت إلى نطاق‬
  ‫شخير جدها العجوز‪ ،‬غمغمة إخوتها الصغار‪ .‬لكنا‬        ‫جاذبيتها‪ .‬عطرها‪ ،‬قميصها الذهبي بتفصيل أفريقي‪،‬‬
 ‫تعانقنا وتبادلنا القبلات حتى كادت أنفاسنا تنقطع!‬     ‫شعرها الذي تربطه بقماش أزرق‪ .‬حبات عرق عذبة‬
 ‫أنت تعلم بأننا لا نستطيع فعل ذلك في حديقة عامة‬      ‫تلمع على جبينها‪ ،‬خديها الكبيرين‪ ،‬شفتيها الطيبتين‪.‬‬
‫أو في شارع النيل‪ ،‬لا أتخيل شرطي يعاملها بإزدراء‬
   ‫أو يجلد عجيزتها الجميلة‪ ،‬لا أتخيل رؤيتها خائفة‬       ‫وأنت بطبيعة الحال تكون شجا ًعا ما دمت سوف‬
                                                                            ‫تعطيها رواية أو أي شيء‪.‬‬
      ‫ذليلة‪ .‬لو رأيت ذلك سوف أقتل نفسي‪ .‬سوف‬
   ‫أركض إلى جسر الإنقاذ وأقفز إلى النهر من هناك‬               ‫مددت إليها الكتاب‪ .‬وقلت لها‪ :‬خذيه هدية!‬
                                                          ‫وندمت أنني تركتها بعد كلامي البسيط هذا‪ .‬لم‬
                          ‫وأنا لا أعرف السباحة!‬        ‫ألتفت إلا بعد سماعي لصوت الباب الذي جزء منه‬
‫أعطتني صورة فوتوغرافية لها‪ ،‬ح ًّقا لها لون مختلف‬     ‫حديد والأخر خشب يصدر ذلك الصوت المميز عندما‬

  ‫عن لوني‪ .‬أنا لوني قمحي كما يصفه الناس حولي‪.‬‬                                                  ‫يفتح‪.‬‬
‫بالنسبة لي ألوان البشر اللغة لا تستطيع أن تصفها‪،‬‬          ‫قالت لي‪ :‬شك ًرا‪ .‬استطاعت أن تسمعها لي‪ ،‬لأنها‬
                                                     ‫اعتادت أن تسمع من يكون بعي ًدا مثل طفل يجلس في‬
   ‫هي ألوان من صنع الإله لا علاقة لنا بها‪ .‬هل هي‬      ‫أخر مقعد‪ ،‬رمت الكلمة ببراعة في قلبي كلاعبة كرة‬
   ‫سمراء‪ ،‬هل هي سوداء‪ ،‬هل هي بيضاء؟ حقيقة لا‬
‫أعلم لكني أعلم بأني أحب كل شيء فيها‪ .‬أنفها فمها‪،‬‬                                        ‫سلة محترفة!‬
 ‫عينيها‪ ،‬حاجبيها‪ ،‬جبينها الذي أتمنى أن أقبله‪ .‬أحب‬    ‫عندما سألني صديقي ‪-‬نعم أصبح لي أصدقاء‪ -‬عن‬

                                      ‫كل شيء‪.‬‬                                                ‫قبيلتها!‬
     ‫أخبرت أمي بأني أريد أن أتزوج‪ .‬أنا أعرف من‬         ‫ضحكت وقلت أنا لم أسألها عن قبيلتها أب ًدا‪ .‬أسأل‬
  ‫هي التي سوف أتزوجها‪ .‬نزار قباني يقول‪ :‬الحب‬          ‫عن حالها‪ ،‬عن صحة أمها‪ ،‬عن صحة الأشجار التي‬
                                                       ‫تسقيها‪ ،‬عن صحة إخوتها الصغار‪ .‬أسألها أحيا ًنا‪:‬‬
           ‫للشجعان أما الجبناء فتزوجهم أمهاتهم‪.‬‬         ‫هل تحتاجين إلى طباشير؟ عندما تقح أسألها‪ :‬هل‬
‫ذات مرة اشتريت لحم ضأن‪ ،‬وأخذت أشويه‪ .‬أخذت‬
                                                                                          ‫أنت بخير؟‬
  ‫رائحة الشواء تنطلق في الجو‪ .‬شمها كلب الجيران‬         ‫أسألها أين اختفى ذلك العطر‪ ،‬هل نفد؟ طلبت منها‬
   ‫فرأيته يبصبص بذيله‪ ،‬كان يبتسم ببلاهة‪ .‬رميت‬
 ‫له قطع من اللحم‪ ،‬تجعلني أطرده من غير أن أشعر‬              ‫ذات مرة أن تعطيني قمي ًصا أفريقيًّا مثل الذي‬
‫بأني لئيم‪ .‬وفع ًل أخذ يهز ذيله ويبتسم ببلاهة طالبًا‬  ‫يرتديه صاحب قصيدة (الله في هذه البلاد ضابط في‬
   ‫المزيد من اللحم‪ .‬هنا نهضت‪ .‬طردته وكأني أهش‬        ‫الجيش)‪ ،‬أذكر أنها اشترت لي واح ًدا وقد كانت تبدو‬
                                                      ‫شاحبة قلي ًل‪ ،‬وبعد ذلك علمت بأنها كانت توفر من‬
                           ‫الحمام‪ .‬وأغلقت الباب‪.‬‬
      ‫جاءت هي تحمل صحن شعيرية‪ ،‬وجلسنا على‬                                   ‫نقود فطورها لتشتريه لي!‬
  ‫الأرض نأكل‪ ،‬داعبت خاتم الذهب الذي في إصبعها‬           ‫بعد كل هذا مستحيل أن أهتم بقبيلتها أو بعرقها‪.‬‬

                               ‫فصرخ ُت‪ :‬يا الله!‬            ‫في التسعينات لم تكن هناك هواتف ذكية ولا‬
       ‫فضحكت هي‪ .‬لقد كان ذلك الخاتم هو خاتم‬           ‫تطبيقات تتيح إرسال الصور‪ .‬كنا أحيا ًنا نثرثر على‬
                                                       ‫الحائط طوال الليل‪ .‬لا أقصد حائط الفيس بوك‪ .‬بل‬
                                       ‫الخطوبة‪.‬‬
   107   108   109   110   111   112   113   114   115   116   117