Page 116 - merit 52
P. 116

‫العـدد ‪52‬‬   ‫‪114‬‬

                                                   ‫أبريل ‪٢٠٢3‬‬

‫فاطمة عيسى‬

‫(السودان)‬

‫بلا عنوان‬

  ‫الوجوه الكئيبة‪ ،‬بعي ًدا عن صرخات الجدات‪ ،‬أتأمل‬     ‫كنت أجلس مع جدتي تحت شجرة المانجو الوارفة‬
‫الحياة‪ ،‬والسماء والحرب اللعينة‪ ،‬كم عائلة قتلت؟ كم‬     ‫وهي تخيط ستارة هرتها أشعة الشمس النهارية‪،‬‬
 ‫ساق بترتها؟ كم طفل تركته بلا عائلة مثلي يصارع‬        ‫الشمس هنا عنيفة عند منتصف النهار وهادئة في‬
                                                       ‫الصباح وخجولة عند الشروق‪ ،‬سألتها بفضول‬
  ‫وحدته في صخرة صارعت هي الأخرى الحرب في‬              ‫عن أمي وأبي‪ ،‬في السابق أخبرتني جدتي أنهم في‬
                                  ‫الماضي ونجت‪.‬‬       ‫السماء بجوار النجوم‪ ،‬لماذا غادرا؟ أجابتني جدتي‬
                                                    ‫بعدما نظرت لحبات المانجو المتدلية ونظرت للسماء‬
 ‫لم أ َر ملامح أمي وأبي‪ ،‬رسمت لي جدتي يو ًما وجه‬    ‫بعينين متعبتين‪ ،‬قتلتهما الحرب يا صغيري‪ ،‬باغتها‬
    ‫أمي على الرمل‪ ،‬كنت اتأملها حتى هاجمتها رياح‬
     ‫شمالية مسحتها كما الحرب مسحت وجودها‪.‬‬                ‫بسؤال آخر أين ساق خالي؟ أم أنه ولد هكذا؟‬
                                                      ‫بترتها شظايا الحرب يا صغيري‪ ،‬الحرب اللعينة‪،‬‬
‫أخبرني خالي أن أبي يشبهني تما ًما لذلك كلما نظرت‬
                  ‫لوجهي في المرأة رايت أبي فيني‪.‬‬         ‫وعادت تخيط ستارتها متجاهلة حبات المانجو‬
                                                        ‫وأسئلتي‪ ،‬تركتني بعدها ودخلت لغرفتها وهي‬
     ‫استقرت الشمس عند نقطة بعيدة‪ ،‬اصفرت من‬            ‫تستند إلى عود خيزران متين‪ ،‬تئن من ألم ظهرها‬
    ‫ثم خالط صفارها لون أحمر خفيف‪ ،‬نزلت ببطء‬            ‫المقوس‪ ،‬تبعتها للداخل‪ ،‬رأيت عينيها تسبحان في‬
    ‫إلى أن اختفت وداهمنا الظلام الموحش‪ ،‬وظهرت‬          ‫الدمع مما أكسبهما لمعا ًنا مخي ًفا‪ ،‬أخبريني جدتي‬
  ‫نجيمات تلمع في وسط السماء‪ ،‬هبت نسمة باردة‪،‬‬           ‫متى تعود الحرب؟ اصمت يا صغيري‪ ،‬لا تسأل‬
                                                     ‫مرة أخرى‪ ،‬ستذهب غ ًدا للمسجد وتأخذ معك تم ًرا‬
      ‫ارتفع عواء الكلاب‪ ،‬وأنين الحشرات‪ ،‬وصوت‬          ‫وتدعي لهما بالمغفرة والرحمة‪ ،‬بعد الصلاة يضع‬
 ‫الخفافيش‪ ،‬أسرعت لمنزل جدتي خو ًفا من الأشباح‬         ‫الإمام يده اليمنى على رأسي‪ ،‬يأخذ بيده اليسرى‬
  ‫التي يشاع أنها تظهر في الليل‪ ،‬وجدتها متمددة في‬       ‫حبة تمر‪ ،‬لهما الرحمة والمغفرة يا صغيري كلنا‬
‫سريرها‪ ،‬عيناها تراقبان السماء وتشع نو ًرا‪ ،‬وجهها‬   ‫راحلون لتلك الدار‪ .‬يبتعد عني بوجه ِه النضر ولحيته‬
  ‫ملائكي‪ ،‬يتطاير شعرها مع كرنفال النسيم من ثم‬       ‫البيضاء وأنامله تداعب حبات المسبحة في يقين‪ ،‬إلى‬
  ‫تستقر خصلة بيضاء على عينيها لتغازل رموشها‪،‬‬           ‫أن اختفى وسط المصلين‪ ،‬أجلس بعدها عند عتبة‬
  ‫تهز شجرة المانجو خصرها مع موسيقي النسيم‪،‬‬            ‫المسجد أتأمل وجوه الداخلين ووجوه الخارجين‪،‬‬
                                                        ‫وأطفال في سني يتسولون وينظرون في جيوب‬
          ‫يتساقط صفق المانجو في سريرها بدلال‪.‬‬           ‫المصلين‪ ،‬طالما اعتادت على صدقاتهم‪ ،‬أتجول في‬
‫همس لي خالي في أذني صباحيتها رحلت جدتك‪ ،‬من‬            ‫المدينة‪ ،‬لا شيء مثير فيها غير مباني طينية هشة‬
‫ثم لحق المشيعون برجله المبتورة‪ ،‬من فوق الصخرة‬          ‫يهددها الخريف‪ ،‬وكلاب تتلوي جو ًعا‪ ،‬كل شيء‬
                                                     ‫باهت‪ ،‬لا شيء ينمو هنا غير أشجار المانجو‪ ،‬تنمو‬
   ‫رأيت جمع غفير وتلاوة ترتل‪ ،‬وجدتي بلا حراك‬
      ‫ملفوفة بثوب أبيض‪ ،‬بعدها لوح لها خالي بيده‬            ‫بلا اكتراث لما حدث أو لما يحدث‪ ،‬تنمو فقط‪.‬‬
                                                      ‫جلست على صخرة كبيرة هشمت أطرافها قذائف‬
 ‫ومضى يبكي ويخفي ملامح حزنه بأوراق المانجو‪.‬‬           ‫الحرب‪ ،‬بعي ًدا عن البلدة ورائحة حزنها‪ ،‬بعي ًدا عن‬
    ‫ح ًّقا! لقد رحلت جدتي وذهبت إلى السماء‪ ،‬ماتت‬

  ‫وهي تبتسم من غير ألم‪ ،،‬وتركتني وحي ًدا على تلك‬
 ‫الصخرة أنتظر قدوم الحرب وأتأمل شجرة المانجو‬

      ‫النابتة على قبرها وهي تهز خصرها النحيف‪.‬‬
   111   112   113   114   115   116   117   118   119   120   121