Page 61 - merit 52
P. 61
59 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
له ،علم شي ًئا واح ًدا فقط ..شي ًئا ألجم لسانه في روايته «لا رياح ولا مطر» .من خلال طرحه
وش َّل أفكاره ،حينما أخبروه بأنه سجين! لموضوعة مهمة ألا وهي السجن وعلاقته بالسلطة
ج َّردوه من نعله القاسي ،السميك ،وفتحت
الحاكمة .ماز ًجا بين التاريخ وواقعه وبين
له ب َّوابة السجن الداخلية ،في نهاية الدهليز، الخيال الروائي« .وما من شك في أن كل رواية
وألقي به إلى (الديماس)» .فقد شكل المكان تاريخية فيها تاريخ وفيها خيال يبدعه الروائي.
ويجب أن يجتمع التاريخ والخيال م ًعا في الرواية
«شبكة من العلاقات والرؤيات التي تتضامن مع التاريخية ،فلو كانت الرواية كلها أحدا ًثا ووقائ َع
بعضها لتشييد مواقع الأحداث ،وتحديد مسار تاريخية ،لكانت تاري ًخا وليست رواية تاريخية،
الحبكة ورسم المنحى الذي يرتاده الشخوص»،
ولو كانت الأحداث في الرواية كلها خيالية لما
فهذا السجن لم يكن كبقية السجون المغلقة وإنما صح تسميتها رواية تاريخية» ،واذا كان التاريخ
كان سجنًا مفتو ًحا إلى الفضاء ،وعلى الرغم من لم يقدم صورة واضحة عن سجن الديماس فان
محمود يعقوب استغل كل معلومة تاريخية لبناء
هذا الانفتاح إلا انه ش َّكل عام ًل ضاغ ًطا على
الشخصية وجعلها تواجه الطبيعة التي لم ترحمها، عالمه الخيالي ،مجس ًدا حالة القمع لإثارة المتلقي
بل تحولت إلى سلطة قاهرة أي ًضا» .في هذا الخلاء وجعله يشعر بما يتعرض له السجين من امتهان
وسحق لكرامته منذ القدم وحتى وقتنا الحاضر.
ليست هنالك واقيات تظلِّل السجناء وتحميهم معتم ًدا على الوصف في تصوير ذلك لينقل لنا هول
من الأنواء ،بل كانت أرض عارية ،مكشوفة
للسماء تما ًماُ ،ترك فيها المساجين لرحمة المكان «وجد نفسه وج ًها لوجه حيال صرح
السماء .أخبره (الساقي) بأن الناس هنا إن عظيم ،يشمخ في صرامة وغموض .كان هذا
لم يقتلوا أو يذبحوا فإنهم بلا شك يموتون هو السجن الكبير ،الذي تح َّدث رجال الشرطة
جراء الحر ،أو البرد ،أو الجوع والمرض».
عنه .و في عاصفة من الذهول أخذ يتأ َّمل
والسارد في كل حين يؤكد على ثيمة الأجواء وما فيه ضائ ًعا .كان السجن مب ًنى هائ ًل مترامي
تفعله ،ليس في السجين العادي ،بل بهؤلاء الثوار الأطراف ،شام ًخا في موضع منعزل ،تحيط به
ليكون الشتاء وظروفه القاسية ما لا يمكن تحمله أسوار شاهقة ،متينة ،تعلوها أبراج حراسة،
«اصطدم الث َّوار بأجواء السجن ،وظروفه وعدد غفير من الرجال المسلَّحين..
القاهرة .لم يتو َّقع أحد أن يجد السجن عرا ًء، حينما أنزلوه عند أبواب السجن الخارجية،
كالبر َّية تما ًما .وحينما جلسوا في مضاجعهم،
ونظروا إلى أسوار السجن وأبراجه العالية، كان السكون شام ًل ،يه ُّز الروع ،ويغمر
أخذتهم رعشة البرد ،وفقدوا الأعماق بالتو ُّتر .ما لبثوا أن
آخر أمل لهم بالنجاة .سري ًعا دفعوا به عبر دهليز طويل،
م َّرت أيام الخريف ،هكذا تم ُّر مسقوف ،رصفت أرضه
عادة ،وجدوا أنفسهم في شتاء بالبلاطات الب َّراقة .وعلى
قا ٍس .بدأت السماء فيه تتلبد جانبيه اصطفت غرف كثيرة
بالغيوم مب ِّك ًرا ،وتكفهر .فيما متجاورة .في إحدى تلك
الرياح الصردة كانت تنفخ في الغرف استنطقوه ثاني ًة ،ثم
رحاب السجن «ومثل هذا المكان د َّونوا اسمه وعنوان سكنه في
جلد كبير .ما أفظع خشونة
يتساوى فيه كل من يدخله، رجال الشرطة ،وما أقسى
فلا فرق بين ثائر وبين لص، فظاظتهم ،تلك الفظاظة التي
كلهم يخضعون لتلك الظروف لم يألف مثلها يو ًما من الأيام.
التي تمارس التعذيب إلى جانب ومن خلال ل َّجتهم وجرجرتهم
رجال الشرطة ومن ث َّم لا فرار