Page 63 - merit 52
P. 63

‫‪61‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

     ‫يح ِّدقان في كل شيء من حولهما في منتهى‬          ‫والآخر ما تحمله من القلق والخوف والعذاب عند‬
  ‫اليقظة والصرامة‪ .‬على أثر ذلك خبت أصوات‬                ‫دخول السجان‪ ،‬وما يثيره في نفوس السجناء‪،‬‬
   ‫اللغط‪ ،‬الداوية في أركان السجن‪ ،‬ثم انطفأت‬           ‫فكان الباب المرتكز الأساسي في حديث السجن‪،‬‬
 ‫تما ًما‪ .‬كانت هذه المراسيم تنذر بالخطر عادة‪.‬‬            ‫فهو البداية‪ /‬والنهاية‪ ،‬الحياة‪ /‬والموت‪ ،‬ولعل‬
‫شخصت جميع عيون السجناء صوبهما»‪ .‬فهو‬                       ‫إخفاء صفات المنعة والحجم الكبير على هذه‬
‫يؤكد على الصور الوصفية المتحركة لتشكيل المكان‬           ‫الأبواب يعكس حالة اليأس القاتل في الخروج‬
                                                         ‫منه‪« .‬لا تنفتح ب َّوابة السجن الداخلية عند‬
                        ‫الذي تدور فيه الاحداث‪.‬‬          ‫المساء إ َّل لأجل الموت‪ .‬حينما ُتش َّرع الب َّوابة‬

    ‫حراس السجن‬                                      ‫بمصراعيها‪ ،‬يندلق وهج الأضواء الباهرة التي‬
                                                     ‫تملأ دهليز السجن‪ ،‬ويأخذ بالانتشار في مقدم‬
‫تعيش الشخصية في السجن تحت الرقابة من قبل‬              ‫باحة السجن‪ ،‬على شكل سديم سحري مشع‪،‬‬
‫الحراس عند مراقبة السجن‪ ،‬أولئك الحراس الذين‬          ‫أبيض‪ُ ،‬مص َفر‪ ،‬يقبض الأنفس‪ ،‬ويغلف مشاعر‬
                                                    ‫السجناء وأحاسيسهم بأكفان لا يطاق بياضها‪.‬‬
     ‫يعيشون السجن من دون جدران «في صباح‬             ‫كان تشريع ب َّوابة السجن لي ًل‪ ،‬أقرب الشبه إلى‬
   ‫اليوم الثالث‪ ،‬ص َّر باب السجن‪ ،‬وهو ينفتح‬         ‫فتح باب قفص طيور أليفة‪ ،‬ومداهمتها من قبل‬
   ‫بروية وحذر؛ ليط َّل منه حارس كبير السن‪،‬‬           ‫ه ٍّر متوحش‪ ،‬جائع‪ ،‬يمتشق براثنه‪ ،‬ويغمدها‬
  ‫أعزل من السلاح‪ .‬وكان هذا أحد أولئك الذين‬
   ‫يطلق السجناء عليهم اسم (الجحوش)‪ ،‬وفي‬                ‫في أجساد رخصة‪ ،‬ولا يخرج من القفص إ َّل‬
    ‫واقع الأمر‪ ،‬كان السجناء يجدون في هؤلاء‬              ‫وهو يحمل طي ًرا‪ ،‬أو طيرين‪ ،‬أو حتى ثلاثة‬
                                                         ‫طيور!» فشكلت بوابة السجن في (الديماس)‬
       ‫أشبه بالسجناء أي ًضا‪ ،‬لا يختلفون عنهم‬
    ‫كثي ًرا‪ ،‬لأنهم يمضون أغلب حياتهم يعملون‬                 ‫الموت المحتم من خلال الصورة الوصفية‪،‬‬
    ‫بين جدران السجن‪ ،‬في سكينة‪ ،‬من غير أن‬               ‫مستخد ًما مجموعة من الأوصاف والألوان من‬
 ‫يعبأ بهم أحد»‪ .‬ويكون السجين تحت سطوتهم‪،‬‬            ‫السديم الذي يتشكل من الرطوبة والغبار والدخان‬
 ‫فالسجان يشعر بالمتعة من خلال إذلال السجناء‪،‬‬         ‫والبخار‪ ،‬ليشكل غيمة سوداء شديدة الحرارة‪ ،‬ثم‬
                                                     ‫يأتي اللون الأصفر وما يحمل من دلالات الحزن‬
      ‫وهو من ناحية أخرى يحاول أن يحقق ذاته‬           ‫والهم والذبول والموت والفناء‪ .‬لتكون تلك الألوان‬
‫ووجوده في دولة تنظر اليه بنظرة دونية‪ ،‬وهم (لا‬        ‫بمنزلة الأكفان‪ ،‬ثم يأتي بصورة وصفية سردية‬
                                                      ‫متحركة تثير مشاعر الوحشة والنفور والشعور‬
  ‫يفقهون شي ًئا‪ ،‬وليست لهم قلوب)‪ ».‬مما يزيد‬             ‫بالتعاطف مع السجناء‪ ،‬ليشبه السجن بقفص‬
   ‫من الخناق على السجناء‪ .‬وفض ًل عن ذلك هناك‬        ‫لطيور أليفة والسجان بهر متوحش ينشب مخالبه‬
 ‫الرقابة غير المعروفة وهي أشد تأثي ًرا من الرقابة‬   ‫في أجساد لينة ويسوقهم إلى الموت من دون رحمة‬
   ‫المعروفة‪ ،‬متمثلة برفاق السجن لمعرفة تحركات‬          ‫أو شفقة‪ .‬فهذه الأبواب تجلب معها الموت حين‬
                                                        ‫تفتح‪ ،‬وتؤكد ثنائية الصوت والصمت الحركة‬
      ‫السجناء‪ ،‬ومن ثم يتحول بعض السجناء إلى‬
‫عيون للسلطة «وفي إثر ذلك سارع أحد خصومه‬                   ‫والسكون‪ ،‬فما إن يسمع صرير تلك الأبواب‬
                                                      ‫حتى تصمت الأفواه عن النطق وتتطلع الأبصار‬
    ‫إلى الوشاية به عند رجل عنيف الطباع من‬
 ‫رجال الشرطة‪ ،‬الذي كان برتبة عريف‪ ،‬وكان‬                    ‫إلى المصير المحتوم‪« ،‬انفرجت الب َّوابة عند‬
                                                     ‫الضحى‪ ،‬ليدخل شرطيان وقد شهرا سيفيهما‪.‬‬
   ‫شرط ًّيا قاس ًيا‪ ،‬متح ِّجر القلب‪ .‬ا َّدعى الخصم‬   ‫ش َّرعا مصراعي الب َّوابة على وسعهما‪ .‬ثم وقفا‬
 ‫أن (الساقي) طالما يروي أشعا ًرا بين السجناء‬
                                                          ‫متأهبين على جانبي الب َّوابة‪ ،‬واحد منهما‬
     ‫في هجاء وذم الأمير‪ ..‬هجاء فاحش إلى ح ِّد‬         ‫انتصب إلى اليمين‪ ،‬والآخر إلى الشمال‪ ،‬وكانا‬
 ‫التجريح‪ ،‬والقذف‪ ،‬وكان هذا صحي ًحا‪ ،‬ويعلم‬
‫به العديد من السجناء‪ .‬حينما طرق هذا الخبر‬
‫سمع العريف‪ ،‬هلَّل وك َّبر له‪ ،‬وسارع ليص َّبه في‬
   58   59   60   61   62   63   64   65   66   67   68