Page 120 - merit 53
P. 120

‫العـدد ‪53‬‬                            ‫‪118‬‬

                                                                  ‫مايو ‪٢٠٢3‬‬

‫نجوى العريبي‬

‫(تونس)‬

‫نشيد الألوان‬

      ‫بهلوانية‪ ،‬يتقاذفان الرأس كرة‪ ،‬يقطفان متعة‬        ‫إنه افتتاح المعرض‪ .‬احتلل ُت الصدارة عن جدارة‪.‬‬
                                        ‫المذبحة‪.‬‬       ‫فموضوعي في قلب الحدث‪ .‬وأنا فخر أمي أي ًضا‪.‬‬
                                                    ‫حملتني ودمعها منهمر‪ ،‬فظرف حملي موجع! قصف‬
     ‫أمي تسترسل في مزج ألوانها‪ .‬السهاد يتملكها‬          ‫ورعد ووابل رصاص وإرهاب غادر‪ ،‬يستشري‬
  ‫والريشة تهتز وتنخفض‪ ،‬تميل‪ ،‬تعلو ثم تنخفض‪،‬‬
 ‫تنحني تعرك انكسار الدمار‪ .‬غبار رمادي وأتربة‪..‬‬                        ‫ينكح المو ُت الحياة ليفرخ جثثًا‪..‬‬
                                                    ‫في هذه القتامة‪ ،‬ولد ُت فكرة ثم صرت واق ًعا‪ ،‬قضت‬
                                  ‫فجأة تستقيم!‬        ‫أمي ساعا ٍت وأيا ًما بل أشه ًرا‪ ،‬تصل النهار بالليل‪،‬‬
    ‫ببعض ضوء متسرب أرقب أمي تقترب‪ ،‬تبتعد‪،‬‬
                                                        ‫ترسمني بدقة‪ ،‬وتشكلني بأناة‪ .‬لا تهمل شاردة‬
        ‫تمحو وتعيد تشكيل الطفل شاخ ًصا بعينيه‬        ‫أو واردة‪ ،‬ترصد نموي‪ ،‬تلون أحداثي وشخوصي‬
  ‫النجلاوين وحيرة تدمي‪ ،‬وفزع ينهشهما‪ .‬يتمسك‬         ‫بتفان لتبعث فيها الحياة‪ .‬تبتهج وتحزن للو ٍن تمرد‪،‬‬
  ‫بتلابيب أمه‪ ،‬ثم لا شيء غير أحم َر قا ٍن يسيل في‬    ‫فلم ينصع لريشتها‪ .‬يتملكني خوف أن تجهضني‪.‬‬
‫اضطراب‪ .‬ووسط الأحمر المتخثر بنتونته والبرتقالي‬       ‫أحيا ًنا تمسك بالمحمل كله ويتهيأ لي أنها سترميني‬
‫المتحفز‪ ،‬إلى الأصفر الممزوج برائحة شواء متصاعد‬       ‫خارج المرسم‪ .‬تتركني لساعات في وحشة ثم تعود‬

       ‫ولدت أنا‪ .‬هنا كان بي ٌت عام ًرا‪ .‬وهناك كانت‬                   ‫إل َّي ظمأى ظمأ الصحراء إلى الماء‪.‬‬
   ‫مدرسة‪ .‬لم يبق غير ركام من الإسمنت والحديد‬           ‫كنت أرقبها تكاد ترقص طر ًبا وهي تمزج ألواني‬
                                                    ‫النارية بتدرجاتها‪ .‬ولا أفهم سر حزنها وهي تراني‬
                                     ‫والأنقاض‪.‬‬      ‫مشه ًدا مجس ًدا‪ .‬أ لٍهذا الحد يزعجها أن ترى أحمري‬
‫ذات فجر محرق ولدت‪ .‬كان مخاضي عسي ًرا‪ .‬جئت‬
                                                          ‫يسربل جسم ذاك الطفل وأمه تحاول إخفاءه‬
  ‫مزي ًجا من الوجع والقهر‪ .‬ألواني الدموية‪ ،‬المدمية‬  ‫وراءها؟ تعجز‪ ،‬تصرخ‪ ،‬تتلقفها ريشة أمي ترسمها‬
    ‫لعلها تنشد حل ًما شعبيًّا في الخصوبة الخضراء‬     ‫فاغرة فاها إلى أقصاه‪ .‬النيران تلتهمها‪ ،‬أحمر بلون‬
                     ‫والإعمار بألوان قوس قزح‪.‬‬
                                                        ‫العليق البري‪ ،‬برتقالي متفجر‪ .‬ألسنة اللهب أفاع‬
‫آمنت بي أمي لذلك توجتني في صدارة القاعة‪ .‬رأيت‬           ‫ُيرقصها نغم الموت وعزف الدمار‪ .‬ت ِسمني أمي‬
   ‫العيون تتفرس بي‪ ،‬ألواني الصارخة تثب إليهم‪،‬‬       ‫بأشكالها الهندسية الحادة‪ ،‬المسننة‪ ،‬حرائق تتوهج‪.‬‬
   ‫تذكر البعض منهم فاجعته! كم خجلت من دموع‬               ‫غير بعيد‪ ،‬جثة والد الطفل مذبوحة من الوريد‬
    ‫المحزونين ترقرقت في مآقيهم! لو أتيت في زمن‬          ‫إلى الوريد! الرأس انفصل عن الجسد‪ ،‬ونافورة‬
   ‫غير هذا الزمن لربما كنت حمامة سلام ترفرف‪،‬‬           ‫من الدماء سيالة في منعرجات وأخاديد يتشربها‬
    ‫أو خب ًزا أكفي به مؤونة الجائعين‪ ،‬ماء أروي به‬        ‫التراب‪ ،‬وشبحان أسودان يرقصان في حركات‬
    ‫العطاشى‪ ،‬لكنت دف ًءا أدثر كل المحرومين‪ ..‬أنا‬
  ‫هنا أتابع الجميع‪ ،‬حتى هؤلاء الذين لووا أعناقهم‬
   115   116   117   118   119   120   121   122   123   124   125